تحليل: الدكتورة نادية حلمي
الخبيرة المصرية فى الشئون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
كان أبرز ما لفت نظرى تحليلياً كخبيرة مصرية متخصصة فى الشأن السياسى الصينى وسياسات الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين، إستنكار كافة الصحف ووسائل الإعلام الصينية الرسمية التابعة للحزب الشيوعى الحاكم فى الصين لتصريحات الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب”، التي أعرب فيها عن رغبته فى إستقبال مصر والأردن فلسطينيين من قطاع غزة، مؤكدين أن تلك التصريحات تمثل تهديداً جدياً للحقوق الفلسطينية، وتؤدى إلى زيادة معاناة الشعب الفلسطينى، وتمثل تهديداً للأمن القومي المصري والعربى. وفى الوقت ذاته، أبدت الدوائر السياسية فى بكين إرتياحها لتصديق المجلس الوزارى الإسرائيلى المصغر للشؤون السياسية والأمنية بالموافقة على إتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، والذى يتضمن (ثلاث مراحل)، ويشمل: الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين ومعتقلين وسجناء فلسطينيين فى السجون الإسرائيلية.
ونلاحظ هنا أن التغطية الإعلامية الصينية لأحداث فلسطين بعد حرب غزة الأخيرة فى أكتوبر ٢٠٢٣، قد زادت بشكل ملحوظ، وبعض القنوات ووكالة الأنباء الصينية أرسلت العديد من المراسلين إلى قطاع غزة وإسرائيل وكافة الأراضي الفلسطينية لتتبع صدى وأخبار الحرب ونقله أولاً بأول إلى الرأى العام فى الصين. كما طالب وزير الخارجية الصينى “وانغ يى” فى مكالمة هاتفية مع نظيره الإسرائيلى “يسرائيل كاتس” فى أكتوبر ٢٠٢٤، بأنه بات من الضرورى وضع حد للكوارث الإنسانية فى قطاع غزة، وفق ما قامت بتغطيته وسائل إعلام رسمية صينية. وبسبب تلك المواقف الصينية الداعمة لحق الفلسطينيين بعد حرب غزة، شنت صحيفة “يديعوت أحرونوت الإسرائيلية” هجوماً حاداً على الصين، مع إتهام الصحيفة الإسرائيلية لبكين، بأنها ترعى ما إعتبرتها دعاية مناهضة لإسرائيل على وسائل التواصل الإجتماعى الصينية، للتأثير على الرأى العام الداخلى فى الصين والعالمى على حد سواء.
وجاءت تأكيدات قادة المكتب السياسى للحزب الشيوعى الحاكم فى الصين على هامش الدورة الثانية للمجلس الوطني الـ ١٤ لنواب الشعب الصينى، من خلال عضو المكتب السياسى للحزب الشيوعى ووزير الخارجية الصينى “وانغ يى”، بأننا “ندعم فلسطين لتصبح عضواً كاملاً فى الأمم المتحدة”، وبأن الكارثة التى تحدث فى غزة ذكرت العالم مرة أخرى بحقيقة أنه لم يعد بالإمكان تجاهل أن الأراضى الفلسطينية محتلة منذ فترة طويلة، وبأن رغبة الشعب الفلسطينى التى طال انتظارها فى إقامة دولة مستقلة لم يعد من الممكن تفاديها، كما أن الظلم التاريخى الذى يعاني منه الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يستمر لأجيال دون تصحيحه، وفقاً لما صرح به قادة المكتب السياسى للحزب الشيوعى أمام وسائل الإعلام الصينية، مع تأكيدهم جميعاً بأن الصين ستكون قوة عالمية للسلام والإستقرار.
وهنا جاءت متابعة البيت الأبيض فى واشنطن وكافة المؤسسات والدوائر الأمريكية ومعها الإسرائيلية والغربية لإجتماعات الدورة الثانية للمجلس الوطني الـ ١٤ لنواب الشعب الصينى، لفهم ما يخططون له بشأن القضية الفلسطينية والحرب الدائرة فى قطاع غزة، حيث يشكل إنعقاد “الدورتين السنويتين” لعام ٢٠٢٤ للمجلس الوطنى الـ ١٤ لنواب الشعب الصينى والمجلس الوطنى للمؤتمر الإستشارى السياسى بشكل متواز، فرصة نادرة لتلمس إستراتيجية الحكومة الصينية التى يقودها الحزب الشيوعي للعام المقبل خلال العام الحالى ٢٠٢٥، ولاسيما تلك المتعلقة بأبرز قضايا وصراعات الشرق الأوسط، وعلى رأسها بالطبع القضية الفلسطينية. وتحظى إجتماعات هذا العام بإهتمام ومراقبة عن كثب لرصد ثقة القادة الصينيين بالظروف الجيوسياسية الحالية المحيطة بالشرق الأوسط وفقاً لإهتمام الصينيين.
كما إستنكرت الدوائر الصينية إقتراح الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” بإخراج أعداد كبيرة من الفلسطينيين من غزة لتطهير القطاع بأكمله، وهو الأمر الذى أثار جدلاً واسعاً وقوبل برفض كبير وفقاً للصينيين أنفسهم حتى من قبل حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية فى المنطقة، وهاجمه الجميع، بإعتباره إقتراحاً خطيراً وغير قانونى وغير قابل للتطبيق. وإعتبرت الدوائر السياسية الصينية بأن التهجير القسرى لسكان غزة سيكون جريمة حرب، لأن ذلك يعنى ببساطة وفقاً للصينيين، بأن تطهير غزة فور إنتهاء الحرب على قطاع غزة، سيكون فى الواقع إستمراراً للحرب، من خلال التطهير العرقى للشعب الفلسطينى، وهذا غير مقبول.
ووصف السفير الصيني لدى الأمم المتحدة “فو كونغ” جحيم الحرب فى غزة، قائلاً بالنص: “إنه إذا لم يكن عدد القتلى في غزة كافياً لإيقاظ ضمير بعض الدول الغربية، فإن حمايتهم المزعومة لحقوق الإنسان للمسلمين ليست سوى أكبر كذبة”. كما وصف وزير الخارجية الصينى “وانغ يى”، الحرب الإسرائيلية فى قطاع غزة بأنها بمثابة “وصمة عار على الحضارة”. ودعت بكين إلى وقف فورى لإطلاق النار فى غزة منذ بدء الحرب الحالية بين إسرائيل وحماس في أكتوبر ٢٠٢٣. مع الوضع فى الإعتبا، أن الصين تاريخياً متعاطفة مع القضية الفلسطينية وداعمة لحل الدولتين في النزاع الإسرائيلي الفلسطينى. وكان الرئيس الصينى “شي جين بينغ” قد دعا إلى عقد مؤتمر دولى للسلام لحل النزاع، كما إستضاف كافة الفصائل الفلسطينية المتناحرة للتقارب بينهم إزاء المواجهة مع إسرائيل، وهو ما أثار إستفزاز وحفيظة تل أبيب وواشنطن فى مواجهة الدعم الصينى للفصائل الفلسطينية بعد حرب غزة وإستضافتهم جميعاً فى بكين.
وفى هذا السياق، جاءت تحليلات مراكز الفكر الصينية المتخصصة فى شئون الشرق الأوسط وأساتذها بشأن قضية تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن، وكان أبرزها تصريح البروفيسور الصينى “دينغ لونغ” أستاذ العلاقات العربية الصينية فى جامعة شنغهاى للدراسات الدولية، بتأكيده على أن “الشعب الصينى أدرك الوجه القبيح للصهيونية لأنه قبل إندلاع الحرب كان هناك تعاطف من بعض المثقفين فى الصين مع إسرائيل التى تظهر وجهها اللامع بالتنمية والتقنية، لكن هذه الحرب على قطاع غزة قد غيرت الرأى العام الصينى تجاه إسرائيل، فالأغلبية العظمى من الشعب الصينى بجميع وكافة فئاته تدعم الآن الشعب الفلسطينى وتتعاطف معه بسبب ما تعرض له من عداون شرس وإبادة جماعية”. كما وصفت مانشيتات والعناوين الرئيسية فى الصحافة الصينية الحرب على غزة، بأنها “مأساة للبشرية ووصمة عار على الحضارة، حيث اليوم، فى القرن الحادى والعشرين، هذه الكارثة الإنسانية لا يمكن وقفها”.
وبرزت مواقف عدة لبكين بشأن الحرب على قطاع غزة، منها أن الحكومة الصينية والرئيس الصينى “شى جين بينغ”، قاموا جميعاً بتسليط الضوء على (حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلدهم)، ولم تقدم الدوائر السياسية والدبلوماسية فى بكين على إدانة حركة حماس، بل منعت الصين مع روسيا قراراً فى مجلس الأمن الدولي بإدانة حركة حماس ، وفي نوفمبر ٢٠٢٤، قادت الصين بصفتها الرئيس الدولى لمجلس الأمن الدولى، لعدة مناقشات طارئة تهدف لإدانة إسرائيل. وحتى خلال سباق الإنتخابات الرئاسية الأمريكية التى إنتهت بفوز “ترامب”، فجاء التأكيد الصينى الرسمى، بأنهم لا يراهنون على أى إدارة أمريكية يقودها أى من الحزبين المتنافسين، فى ظل إستمرار دعمهما لتل أبيب، معتبرين أنها “شريكة فى جريمة الإبادة الجماعية على قطاع غزة”.
كما شعر الدبلوماسيون الإسرائيليون فى السفارة الإسرائيلية فى بكين بالإحباط لأن السلطات الصينية تسترت وفقاً لتصريحاتهم، على حادثة طعن نائب القنصل الإسرائيلى فى العاصمة الصينية بكين على يد رجل فى بكين يعتقد أنه متطرف، وفقاً لتقرير صحفى منشور من قبل صحيفة “يديعوت أحرنوت الإسرائيلية”. مع الإندهاش الإسرائيلى التام، من أن بكين لم تبدى أى إدانة لحماس حتى مع مقتل ٤ مواطنين صينيين فى عملية “طوفان الأقصى” التى شنتها حماس، بل بعدها وصف وزير الخارجية الصينى “وانغ ويى”، خلال ترأسه جلسة مناقشة في مجلس الأمن أواخر نوفمبر ٢٠٢٤، تصرفات الجيش الإسرائيلى بأنها “عقاب جماعى” ونقل المدنيين الفلسطينيين داخل غزة بأنه “تهجير قسرى مرفوض تماماً من قبل الصين والمجتمع الدولى”، وهو ما أثار غضب إسرائيل وحليفتها الأمريكية فى مواجهة موقف الصين الداعم للقضية الفلسطينية ولأهل غزة ورفضاً لتصريحات “ترامب” الحالية، بشأن تهجير الفلسطينيين. مع تأكيد وزير الخارجية الصينى “وانغ يى”، بأن بلاده ترفض العقاب الجماعي لسكان غزة وتهجيرهم قسرياً وجماعياً.
وهنا جاء الرد الصينى رسمياً بشأن قضية تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الدول المجاورة كمصر والأردن، من خلال نائب مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة “قنغ شوانغ”، وذلك فى جلسة عامة للجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الممارسات والأنشطة الإستيطانية الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وفقاً لتغطيات وكالة الأنباء الصينية الرسمية فى بكين، عبر عدداً من العناوين الرئيسية فى الصحافة ووسائل الإعلام الصينية الرسمية، بشأن تصريحات “قنغ شوانغ” نائب مندوب الصين لدى الأمم المتحدة، من أن “الصين ترفض بشدة التهجير القسرى للسكان الفلسطينيين”، داعية إلى رفع أمر إخلاء شمال غزة فوراً، مستشهداً بقول الأمين العام للأمم المتحدة، بأن الوضع اليوم فى قطاع غزة لم يحدث من فراغ، وبأن الحقيقة وراء الصراع فى غزة، هى أن مساحة معيشة الفلسطينيين تم تقليصها إلى أقل حد بسبب أكثر من نصف قرن من الإحتلال الإسرائيلى الغاشم عليهم.
كما لفت مندوب الصين إلى أن التوسع المستمر للأنشطة الإستيطانية على الأراضي الفلسطينية وإستيلاء إسرائيل على الموارد الفلسطينية وإنتهاك حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم، الأمر الذى جعل إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة مستقلة أكثر صعوبة، مع تأكيد المندوب الصينى الدائم لدى الأمم المتحدة، بأن تصاعد العنف والوضع الإنسانى المتدهور وإنتشار اليأس، لهى تذكير دائم بأن الوضع الراهن فى الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قابل للإستمرار، ولابد من وقفه. مع دعوة الصين رسمياً لإسرائيل من خلال وزارة خارجيتها، إلى التوقف عن إنتهاك قرار مجلس الأمن رقم ٢٣٣٤، ووقف جميع الأنشطة الإستيطانية، والتوقف عن طرد الفلسطينيين، ووقف عنف المستوطنين المتزايد، والعودة إلى المسار الصحيح لحل الدولتين في أقرب وقت ممكن.
وبناءً عليه، نفهم الموقف الرسمى للصين الداعم للقضية الفلسطينية ولأهل غزة ورفض تهجيرهم قسرياً إلى مصر والأردن، وفقاً لتصريحات الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب”، مع تأكيد وزارة الخارجية الصينية وفق بياناتها الرسمية، بأنه ينبغى على المجتمع الدولى أن يواجه الأسباب الجذرية للمشكلة، وينبغى ألا يستخدم إدارة الأزمات بشكل مجزأ بديلاً عن حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، أو تعويض العجز السياسى والأمنى بإجراءات إقتصادية وإنسانية لسكان القطاع فى غزة.