الهدوء العقلي

بقلم: محمد عبد الحليم صالح

العقل البشري هو المنظومة المعرفية التي يسعى الإنسان من خلالها إلى تدبير شئون حياته وحل المشكلات التي تواجهه واتخاذ القرارات الواجبة والملائمة لظروفه المختلفة، غير أن هذا العقل قد يتعرض إلى حالات من الفوضي والانزعاج الداخلي؛ وذلك بسبب تراكمات ضغوط الحياة اليومية وازدحام الأفكار وتلاحق الأحداث المتعددة وتعدد التفسيرات والتحليلات، وهذه الفوضى العقلية كفيلة بأن تجعل الفرد في حالة من عدم الاتزان في الأحكام المعرفية على الأمور كما أنها تعطل العقل عن التفكير الصائب الصحيح والتوصل إلى القرارات الحكيمة عند إدارة مجالات الحياة.
ومن هنا كانت أهمية الحديث عن الهدوء العقلي وكيفية وصول الإنسان إلى هذه الحالة كي تشرق شمس الحكمة والبصيرة الذهنية داخل عقله وتسير أفكاره على هداية من ضياء الرشد القويم، ويستطيع الفرد أن يصل إلى هذه الحالة من الهدوء العقلي من خلال اتباع بعض المهارات والاستراتيجيات النفسية التالية:
**لا تحمّل عقلك فوق طاقته: حيث يعاني كثير من الأشخاص في هذه الآونة من الإفراط في التفكير في كل كبيرة وصغيرة فيزعجون عقولهم بالتفكير في الأمور غير ذات الأهمية والقيمة؛ وهم بذلك يزحمون عقولهم بصغائر المسائل على حساب القضايا المهمة والضرورية؛ ولذلك فمن الحكمة الواجبة أن يحرص الإنسان على اتباع مهارة “تحديد الأولويات”، والتي من خلالها يقوم بتنظيم عقله وتوجيه تفكيره إلى القضايا ذات الأولوية وذات الشأن في حياته، فلا يجعل ماكينة العقل تعمل بلا توقف فيما لا طائل من وراءه، ولا يهدر طاقة عقله في قضايا لا تستحق ضياع الوقت والجهد فيها، بل يراقب أفكاره فإذا وجدها تنسحب نحو الانشغال بقضايا فرعية غير ذات جدوى، فعليه أن يرجع إلى أصل الموضوع وجوهر القضية، ويركز كامل طاقته الذهنية فيه وصولا إلى حسم موضوعاته، ولا يترك نفسه تضيع في التفاصيل المتشعبة التي قد تشوه الأصل الجوهري للقضايا، ويستطيع فعل ذلك من خلال التدريب على التفكير بالكتابة والاستعانة بوسيلة الورقة والقلم في تحديد الأفكار وخطوات حل المشكلات حتى يصبح ذهنه منظما وواضحا ودقيقا.
**ضبط إيقاع الزمن: من الاستراتيجيات المهمة التي لها أهميتها المتميزة في حياة الفرد الايجابية استراتيجية “إدارة الوقت”، فالوقت هو الوعاء الذي يتسع ليشمل أفعال الفرد وسلوكياته، وإن الحرص على تنظيمه يجعل إيقاع تفكير العقل يسير بهدوء وروية، غير مرتبك ولا مضطرب، ولذلك ينبغي لمن أراد لنفسه أن يعيش حالة الهدوء العقلي أن ينظم مهام ومجالات يومه منذ مساء الليلة التي تسبقه، حيث يعرف بدقة ما عليه القيام بأدائه في توقيتاته المحددة، ويضع الشخص لنفسه المساحة الزمنية المناسبة لأداء المهام بحيث يتحرك فيها بهدوء وسكينة، ولا يصبح الوقت مصدرًا للضغط عليه، فيصبح الشخص مضطرًا إلى ملاحقة الزمن والركض بعشوائية خلف مهام يومه، فإنه بذلك يُزعج نمط تفكيره العقلي فتتداخل لديه الأفكار والخواطر ويصدر عن ذلك المزيد من أخطاء القرارت وأخطاء تنفيذ الأداء.
**احذر مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي: من أكبر مزعجات العقول في هذا الزمان الإفراط والوقوع في هذا الطوفان الجارف من الانشغالات التي لا قيمة لها والتي تصل إلى عقولنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بكافة أشكالها وأنواعها؛ نظرًا لما تحتويه هذه الوسائل من تناقضات ومشتتات ومربكات للهدوء العقلي والاتزان الفكري؛ لذلك فمن أهم مصادر الهدوء العقلي للفرد أن يحرص على الحد من استخدام هذه الوسائل التكنولوجية العصرية بأقصى جهد مستطاع، بل يقتصر استخدامها فقط على النفع والضرورة والفائدة، أما أن يترك الإنسان نفسه فيغرق في هذا الطوفان المدمر لأفكار العقل فلن يصيبه في النهاية إلا الإجهاد الذهني والإرهاق والشتات النفسي.
**كُن حاسمًا في فصل المهام: من أراد لعقله الهدوء والاتزان في التفكير فعليه أن يحاول تعلم واكتساب وممارسة مهارة “فصل المهام”، وهي تعني أن يفصل الفرد بين المجالات والمهام بحيث لا ينقل الشخص مشكلات العمل إلى المنزل ولا ينقل مشكلات المنزل إلى العمل، فالحياة مليئة بالضغوط والمشكلات الفرعية المتعلقة بكل سياق ومجال، والعاقل من يحرص على فصل هذه الملفات عن بعضها البعض فلا تتداخل فتزعج العقل والنفس معا، فعليك إذا خرجت من مكان أن تحرص على غلق مشكلاته عليه فلا تأخذها معك إلى المكان الآخر، وبالطبع فإن اكتساب هذه المهارة ليست بالأمر الهين السهل، ولكن مع الحرص على الممارسة اليومية لها ستصبح في متناول اليد ويصل الشخص إلى إتقانها ولو بشكل نسبي؛ وذلك تفاديًا لازدحام العقل بالأفكار المختلطة والمتضاربة في وقت واحد مما يشكل عبئًا معرفيًا ثقيلًا.
**تهيئة السياق: قد يحتاج الشخص إلى أمور في البيئة المحيطة به تساعده على تصفية الذهن من الضغوط، واستعادة الشعور بحالة الهدوء والصفاء العقلي وتهيئ له المناخ المناسب لذلك، وإن من الأشياء التي قد تساعد الفرد على الوصول إلى هذه الحالة، تنظيم وترتيب البيئة المحيطة بالفرد بالشكل المريح له مثل تنظيم الغرفة التي يجلس فيها، وترتيب محتوياتها، وكذلك ترتيب وتنسيق الوسائل والأدوات التي يستخدمها على مكتب العمل أو في مكتبة المنزل، والحرص على عدم بعثرة المتعلقات الشخصية في كل مكان فإن هذه الأمور البسيطة لها مفعولها الخاص في ترتيب وهدوء أفكار العقل، ولا أبالغ عندما أقول أن أبسط الأشياء مثل ترتيب الملفات الالكترونية على جهازك الخاص أيضا يساعدك في تهيئة عقلك وترتيب أفكاره، وكذلك أيضًا يستطيع الإنسان مساعدة نفسه في الحصول على تصفية الذهن من خلال بعض الممارسات البسيطة لمهارات “التعقل والتأمل الواقعي والتأمل التخيلي” كأن يخصص وقتًا مستقطعًا بشكل يومي يحرص فيه على غلق عينيه ولو لمدة ربع ساعة فقط، ويتخيل مشهدًا طبيعيًا من إبداع الله سبحانه وتعالى مثل: مشهد النجوم اللامعة في السماء، أو مشهد أمواج البحر الهادئة التي تتحرك برفق وانسيابية في أوقات الشروق والغروب، أو مشهد الزهور الجميلة بداخل حديقة زاهرة بالألوان المتناسقة المبهجة، ولا يفكر الشخص حينها في أي شئ سوى الانسجام والتوحد مع هذه المشاهد، فمثل هذه المشاهد التخيلية تستطيع خلال هذا الوقت القصير من اليوم استعادة طاقة العقل وهدوءه ونقاء أفكاره حتى يستطيع الفرد مواصلة التفكير بوضوح في كافة قرارات الحياة ومسئولياتها العديدة.
***وتبقى توصيتي الأخيرة في هذه المقالة أن يحاول الإنسان أن يريح عقله من عناء التفكير في تصاريف الله في خلقه، وأن يبتعد عن الانشغال بأحوال الناس والتطفل على حياتهم الشخصية وأسرارهم الخاصة، وأن يترك حكمة الله تبلغ غايتها، وأن يتعلم الإنسان معنى “التوكل الحق”، فيعلم يقينًا أن جميع الخيوط ليست بيده، بل عليه فقط أن يفعل وسع طاقته ويتخذ جميع الأسباب والوسائل المؤدية إلى الأهداف؛ ثم يترك النتائج لله ويرضى بحكمته العليا فيها، فلا يرهق ويجهد نفسه في حسابات لا يعلم منها إلا ظاهرها، أما بواطنها وحقيقتها فلا يملكها إلا الله وحده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *