بقلم: محمد عبد الحليم صالح
يُقصد بقيمة الرحمة بالذات أو التراحم الذاتيSelf-compassion ما يمنحه الإنسان لنفسه من مقدار اللطف والرأفة والتسامح واللين، مثلما يمنح هذه المشاعر لأقرب أحباءه عندما يمرون ببعض المشكلات أو الأزمات أو الضوائق فيعطيهم كافة ألوان الاهتمام والاحتواء والشفقة والدعم تخفيفًا عنهم ورحمةً بهم؛ ومن الحكمة والأجدر أن يُعطي الإنسان مثل هذه المشاعر النبيلة لنفسه مثلما يعطيها للآخرين وأكثر، وهي الحالة التي توصف بحالة “الاحتضان الذاتي الرحيم”.
وقد يغيب هذا المعنى عند البعض أو الكثير؛ نظرًا لعدم الاعتياد على هذا المفهوم وتلك المهارة، ولعل أبرز الأسباب وراء غياب هذا المعنى هو عدم غرسه في نفوس الأبناء من البداية أثناء مراحل التنشئة الاجتماعية الأولى للوالدين، فغالبًا ما تميل أساليب المعاملة الوالدية في التنشئة إلى إصدار الأحكام على سلوكيات الأبناء وعلى ذواتهم، وتوجيه الوعظ والنصائح، وإلقاء كافة أشكال اللوم والعتاب والتأنيب عند ارتكابهم لبعض الأخطاء، وذلك فضلًا عن مرور الأبناء بخبرات المعاملة القاسية والتسلط المبالغ فيه؛ فمن هنا كان الابتعاد عن معايشة مفهوم الرحمة بالذات وعدم الالتفات إلى أهميته وقيمته في حياة كل إنسان.
غير أن من الجيد معرفة أن مثل هذه المهارات من الممكن اكتسابها في أي مرحلة عمرية للفرد، فإذا كانت المعاملة الوالدية لدى المعظم قد أسقطت هذا المعنى من حساباتها- وغالبًا ما يحدث هذا الأمر بشكل غير مقصود من الآباء والأمهات إذ ليس في نيتهم بالطبع إيقاع الأذى بأبنائهم وإنما لغياب العلم والوعي لديهم بهذه المفاهيم والمعاني- فإن الفرصة لا تزال سانحة لتعلم واكتساب هذه المهارة الإنسانية الراقية، وتلك القيمة التي تحمل معها الدواء والتشافي من آلام وأوجاع نفسية متداخلة وعديدة عبر سنوات العمر وخبراته غير السعيدة ومشاعر الخذلان المتكررة والقاسية.
فإننا عندما نقول على ألسنتنا لبعض الأشخاص أثناء مرورهم بأوقات عصيبة: “رفقًا بنفسك”، “ارحم نفسك”، “لا تكن قاسيًا على نفسك”، “لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها”، “إن لنفسك عليك حقًا”؛ علينا أن نتذكر معايشة معنى هذه العبارات مع أنفسنا قبل أن نقدمها للآخرين، فالتراحم الذاتي في جوهره يتناقض مع مفهوم جلد الذات؛ الذي يتقنه الكثير من البشر ببراعة، ولم يلتفتوا يومًا إلى المعنى المعاكس له وهو معنى الرحمة بالذات والرفق بها، رغم أن هذا المعنى الأخير هو أقرب لرضا الله عن حال الإنسان عندما يراه رفيقًا بنفسه ورفيقًا بالآخرين، فإن من سنن الله تعالى في خلقه أنه يحب الرفق في الأمر كله، و”ما كان الرفق في شئ إلا زانه وما نُزع من شئ إلا شانه” كما علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذه الفضيلة العليا من الرحمة واللين والرفق، وبالتالي فكيف تأمرنا مبادئ الشريعة العليا بممارسة هذا المعنى مع الآخر ونحرم أنفسنا نحن من معايشته والسكون في رحابه؟.
ولا يُقصد بالتراحم الذاتي معنى التساهل والاستهتار وعدم الشعور بالمسئولية، ولكن معنى التراحم على خلاف ذلك؛ فهو يستهدف الرأفة واللين مع النفس في كافة الأخطاء والزلات والعثرات التي مضت وليس في المقدور إصلاحها في الحاضر، كما يستهدف الرحمة مع الذات في أشكال المعاناة التي قد يمر بها الفرد وتأتيه من أذى الآخرين له وليس له دخل فيها، فعلى الإنسان إن لم يستطع التغيير واتخاذ القرارات لإصلاح هذه الأمور، أن يتقبل واقعه وأن يمزج هذا التقبل بقيمة الرحمة الذاتية وليس جلد الذات ولومها على ما ليس للإنسان دخل فيه ولا إرادة.
وحتى يستطيع الإنسان تحقيق معنى الرحمة بالذات وتعميق الشعور به، فعليه أن يحرص على اتباع التوصيات والإجراءات التالية:
معايشة الحاضر “هنا والآن”: وهذا المبدأ من الأسس الأولية التي ينبني عليها شعور الفرد بالرحمة الذاتية، حيث يتخلص الذهن من الاستغراق في أحداث الماضي المؤلمة، وأحداث المستقبل المجهولة، فلا يترك الزمام لشوارد أفكاره تنحو به نحو ذكريات الماضي أو قلق المستقبل، فالحاضر هو الزمن الوحيد الذي نملكه، أما ما عدا ذلك فهو وهم وسراب ولا طائل من الشجار معه سوى فقدان الطاقة النفسية فيما لا يفيد، ولذلك فأول خطوات الوقاية من الوقوع في فخ لوم الذات وجلدها ألا يترك الإنسان خواطره تذهب بعيدًا عن حاضره وإنما عليه استحضار ما بين يديه من وقته الراهن، ويتحقق ذلك بالتدريب على مهارة التعقل التي تتيح للعقل أن يركز كامل طاقته على شئ واحد دون إصدار الأحكام، وذلك بتفعيل الحواس الخمس، مثل التركيز الكامل على تذوق طعام شهي، أو سماع صوت متكرر بإيقاع واحد كصوت سقوط قطرات المطر، أو استشعار ملمس المياه على الجسم أثناء الاستحمام، أو استنشاق العطر المفضل، أو اندماج البصر مع منظر الطبيعة في جمال الزهور أو رسومات السحب في السماء، فكل هذه الأمور من الممارسات تدعم تهدئة العقل وإبقاءه حاضرًا هنا والآن.
احتضان الألم: لا تنكر ألمك ولا تهرب منه ولا تتصارع معه، ولكن عليك بمعانقة آدميتك بما فيها من ضعف وقوة، وتلك علامة جيدة أن تشعر أحيانًا ببعض الألم فذلك يعني أن روحك لاتزال بخير، وهو نفس المعنى الموازي لمفهوم التقبل غير المشروط للذات، أي أن يشعر الإنسان بمعنى المحبة الغامرة لذاته وروحه وسماته الخاصة بكل ما فيها من مكارم ونقائص، فإن الله تعالى لم يخلقنا من الملائكة أو من الشياطين وإنما بشرًا نصيب ونخطئ، وجدير بالإنسان عندما ينظر إلى حاله ويجد أن مكارمه أعلى من نقائصه أن يستشعر معنى آدميته، فليس المطلوب من الإنسان أن يصل إلى صفة الكمالية، لأنها مستحيلة المنال على كل بني البشر إلا ذوي العصمة من الأنبياء والمرسلين، وليس معنى محبة الإنسان لنفسه أن يقع في رذيلة الأنانية، وإنما هو معنى آخر يسمى الأنانية الحميدة التي تدعم تقدير الإنسان لذاته وثقته بنفسه وتجعله يعفو عن أخطائه ويتسامح مع زلاته فيتحقق بداخله معنى السلام النفسي.
تعديل الحوار الداخلي السلبي: قد يأتي اللوم والعتاب قاسيًا من داخل الإنسان ذاته ومن خلال الكلمات التي يتحدث بها إلى نفسه، ويكمن الحل هنا في تعديل هذه اللغة الحوارية الداخلية؛ وذلك من خلال المراقبة الذاتية للكلمات والرسائل التي يتحدث بها الفرد مع نفسه غالبية الوقت، وما تحمله من الأوصاف السلبية والنقد اللاذع، والعمل على تعديله إلى الحوار الواقعي المتصف بالتراحم مع النفس والدعم الإيجابي لها، فلا يتحدث الفرد إلى نفسه على سبيل المثال: “أنا إنسان فاشل” لمجرد مروره بخبرة غير موفقة، ولكن يقول: “أنا إنسان أسعى وأحاول وأفعل ما في وسعي حتى يحالفني النجاح”.
فضيلة الامتنان: وهي من أكبر مدعمات الشعور بقيمة الرحمة الذاتية حيث يوجه الإنسان ذهنه عن قصد إلى التفكير في بعض أمور حياته التي يستشعر فيها بمقدار نعمة الله عليه ورحمته حين أعطاه إياها، ثم يقوم بتركيز طاقته العقلية والروحية على ثلاثة أمور فقط من هذه النعم التي يراها هي الأكثر وقعًا في نفسه وأعمقها شعورًا بالشكر، ثم يكتبها بوضوح ويبدأ في المواظبة على قراءتها كل يوم حين استيقاظه وقبل منامه، فحينها يصل إلى الشعور اليقيني بأنه مغمور بفضل من الله وكرمه، وأن الله جعله في موضع تكريم لديه بهذا الفضل الواسع، فيرى بقلبه معنى الرحمة التي شمله الله بها فلا يضن بعد ذلك على نفسه أن يحاكي هذا المعنى بداخله، ولا ينظر إلى نفسه نظرة المحروم المعاقب، بل نظرة الراضي المغمور بالفضل، ومن هذه الوجهة الروحانية يتحقق للإنسان سكون الخاطر واطمئنان القلب.
كن نفسك وابتعد عن المقارنة مع الآخر: إن من أقوى المزعجات التي تعصف بالهدوء النفسي وتجعل الفرد في حال من عدم الرضا، أن يقارن الإنسان نفسه بغيره، بل إن كل إنسان يحمل بداخله جمالًا خاصًا وروحًا فريدة لا يشبهه فيها أحد، فلكل إنسان بصمته النفسية المتميزة، ولذلك فمن أراد لنفسه هدوء الخواطر والرحمة بالذات؛ فعليه أن ينظر نظرة تقدير إلى ما يملكه من سمات وقدرات تجعله يتميز بها عن غيره، وإذا أراد عقله أن يقارن فعليه فقط بمقارنة نفسه بنفسه؛ حتى يعلم إلى أين وصل وأين يريد أن يصل، وبذلك يتجسد مبدأ النمو والتطور الشخصي، أما أن يقع الفرد في معضلة المقارنة مع الآخر فلن يجني منها إلا عدم التوازن الداخلي، ولومه المستمر لذاته والحط من قدرها، والبعد عن معنى الرحمة الذاتية.
انتبه جيدًا واستمع إلى كلماتك عند مواساة الآخرين ورددها لنفسك: فعندما ينطلق اللسان في كلمات المواساة للآخر في الأوقات المؤلمة، فعلى الإنسان أن ينتبه ويستمع جيدًا لنفسه ولكلماته، ويعلم أنه أولى الناس بها، فهذه المعاني الرحيمة التي ينطق بها اللسان بهدف التخفيف والمعالجة لجراح الآخرين، هي في الواقع تمثل احتياجًا للإنسان الناطق بها، أن يقولها لنفسه حتى يخفف من لومه لذاته وتأنيبه لها في كثير من الأوقات والأحوال، ولذلك فمن وسائل اكتساب الرحمة الذاتية، أن يحرص الإنسان على ترديد بعض العبارات التي يرى أنها تطيب آلامه وتخفف أوجاعه، من خلال كتابتها والمواظبة على قراءتها حتى تستقر وتندمج في كيانه الشخصي ويستشعر أثرها في نفسه، ومن أمثلة هذه العبارات:
أنا أستحق العيش بسلام وسعادة.
أنا بخير في كل الأحوال ولست مضطرًا أن أكون مثاليًا.
أستطيع تحقيق أحلامي رغم كل شئ.
وختامًا، يقول الدكتور مصطفى محمود: (الرحمة أعمق وأطهر وأصفى معاني الحياة، لأنها تجمع بين الحب والتسامح والتضحية والكرم في فضيلة واحدة).