إتفاقية التجارة الصينية مع الولايات المتحدة الأمريكية تُحدث تحولاً فى الخطاب الإعلامى والسياسى فى الصين

تحليل: الدكتورة نادية حلمى

الخبيرة المصرية فى الشئون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف

جاء الإتفاق الصينى الأمريكى عبر وساطة سويسرية فى جنيف، على تسوية عدداً من المشاكل التجارية بين الطرفين، عبر تعليق جزء من الرسوم الجمركية لمدة ٩٠ يوم، بما يمثل فرصة لإعادة بناء الثقة بين البلدين، وفتح آفاق أوسع للتعاون الإقتصادى فى المستقبل بينهما. وأعلن البلدان فى بيان مشترك عن إنشاء “آلية لمواصلة المناقشات حول العلاقات الإقتصادية والتجارية بقيادة وزير الخزانة الأمريكى “سكوت بيسنت” ونائب رئيس مجلس الدولة الصينى “هو لى فنغ”، مع تأكيدهما على أن “المحادثات المستمرة يمكن أن تعالج مخاوف كل طرف تجاه الآخر. وجاءت صيغة الإتفاق عبر خفض الرسوم الأمريكية على البضائع الصينية إلى ٣٠% لمدة ٩٠ يوماً. فيما أعلنت الصين خفض قيمة التعريفات الجمركية على واشنطن من ١٢٥% إلى ١٠% لمدة ٩٠ يوماً بالمثل. حيث أثارت الرسوم الجمركية الضخمة التى فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على الصين، وردت الصين عليها بمثلها مضاعفاً، العديد من المخاوف من إنهيار التبادل التجارى بين القوتين، مع إعلان الموانئ الأمريكية لأول مرة رسمياً، عن إنخفاض حاد فى عدد السفن المتوقعة القادمة من الصين. مع الوضع فى الإعتبار، بأن رفع الرسوم الجديدة التي فرضها “ترامب” على الصين لا يعنى حل النزاع، لأن الهدف الواقعى فى أفضل الأحوال هو التراجع عن التصعيد الحالى، دون إنهاء الرسوم العالية والقيود الأخرى القائمة بين الطرفين. وتترقب مئات الشركات الأمريكية أيضاً نتائج محادثات سويسرا مع الصين، وعلى رأسها شركات التكنولوجيا الأمريكية العاملة فى اوشركة “وايد راى” الأمريكية المتخصصة فى قطاع الملابس الرياضية النسائية ومقرها ولاية أيداهو، والتى تملك خطوط إنتاج في الصين، والتى أعلنت من قبل تضررها من الحرب التجارية الأمريكية الصينية وتوقف نشاطها فى الصين بسبب ذلك.

جاء الإتفاق بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على خفض متبادل للرسوم الجمركية بنسبة ١١٥%، كما تضمن هذا الإتفاق آلية لمحادثات تجارية مستمرة بين الجانبين، لضمان تنفيذ التفاهمات ومتابعة المستجدات بين الطرفين. وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال هذا الإتفاق لتحقيق توازن تجارى أكبر مع الصين، ودفعها إلى الإنفتاح أكثر على إستيراد السلع الأمريكية، بما يعزز الصادرات الأمريكية ويقلل من فجوة العجز التجارى، التى إرتفعت بشكل كبير خلال فترة ولاية الرئيس الأمريكى السابق “جو بايدن”. ولكن ما تزال الإجراءات الأمريكية تتضمن رسوماً إضافية بنسبة ٢٠% تهدف إلى ممارسة الضغط على بكين لبذل المزيد من الجهود للحد من التجارة غير المشروعة فى عقار الفنتانيل الذى يتسبب فى موت آلاف الأمريكان سنوياً بعد تهريبه عبر الحدود المكسيكية للداخل الأمريكى، وهو ما تنفيه بكين بإستمرار.

وتسعى واشنطن إلى خفض عجزها التجارى مع بكين، والبالغ ٢٩٥ مليار دولار، وإقناع الصين بالتخلى عما تصفه الولايات المتحدة الأمريكية بالنموذج الإقتصادى التجارى والمساهمة بشكل أكبر فى عجلة الإستهلاك العالمى، وهو تحول يتطلب إصلاحات داخلية حساسة سياسياً وفقاً لنهج الأمريكان، وهو ما تتحفظ عليه بكين، وفقاً لمبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية لبكين خارجياً ولاسيما من قبل الجانب الأمريكى.

وأشادت وسائل الإعلام الرسمية الصينية بالإتفاق التجارى مع الولايات المتحدة الأمريكية، وجاءت أولى تعليقات هيئة الإذاعة والتلفزيون الصينية لتليفزيون “السى سى تى فى”، بأن الإجتماع بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية فى العاصمة السويسرية جنيف كان “متوازناً ومفيداً لكلا الجانبين”. وأعلنت وزارة التجارة الصينية بأن “الإتفاقية مع الولايات المتحدة تمثل خطوة مهمة لحل الخلافات ووضع الأساس لتجاوز الخلافات وتعزيز التعاون بين البلدين”. كما أكدت نائبة وزير الخارجية الصينى “هوا تشون يينغ”، بأن “بكين واثقة تماماً من قدرتها على إدارة الملفات التجارية مع واشنطن، وبأن الصين مستعدة للمفاوضات المقبلة معها”. فى الوقت الذى يشكك فيه بعض الإقتصاديين فى الصين عبر عدد من التحليلات المنشورة، بأن فترة التوقف التى تبلغ ٩٠ يوماً هى مؤقتة، وأن القضايا العالقة قد تطفو على السطح مجدداً إذا لم يتم التوصل إلى إتفاق شامل بين الطرفين.

وجاءت أولى الخطابات السياسية للرئيس الصينى “شى جين بينغ”، بعد خطوة الإتفاق التجارى مع واشنطن، بأن: “التنمر والهيمنة الأمريكية لن يؤديا إلا إلى نتائج عكسية”، وذلك فى إشارة ضمنية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وجاء ذلك بعد يوم واحد فقط من الإتفاق على هدنة مؤقتة فى الحرب التجارية بين أكبر إقتصادين فى العالم. وقال الرئيس الصينى “شى جين بينغ”، بأنه: “لا رابح فى حروب التعريفات الجمركية أو الحروب التجارية، فالتنمر أو الهيمنة الأمريكية لن يؤديان إلا إلى العزلة الذاتية”، مكرراً تحذيره الذى أطلقه طوال المواجهة التجارية مع الرئيس الأمريكى “ترامب”. وأضاف الرئيس “شى”، بأن “التغييرات العظيمة التى لم نشهدها منذ قرن تتسارع، مما جعل الوحدة والتعاون بين الدول أمراً لا غنى عنه بدلاً من لغة التنافس والصراع”.

وعلى الجانب الصينى، فلدى الصين العديد من أوراق اللعبة الرابحة فى مواجهة الحرب التجارية الأمريكية معها، فالصين هى ثانى أكبر إقتصاد فى العالم، مما يعنى قدرتها على إستيعاب آثار الرسوم الجمركية بشكل أفضل من الدول الأصغر الأخرى، كما تتمتع الصين، التى يتجاوز عدد سكانها المليار نسمة، أيضاً بسوق محلية ضخمة يمكن أن تخفف بعض الضغط عن المصدرين الذين يعانون من الرسوم الجمركية الأمريكية على الصين. وقد منحت رسوم ترامب الجمركية على الصين قيادات الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين زخماً أقوى لإطلاق العنان لإمكانات البلاد الإستهلاكية. مع إعلان قيادات الحزب الشيوعى الصينى، عن إستعداد الصين التام لتحمل الألم، لتجنب الإستسلام لما تعتقد أنه عدوان أمريكى عليها. مع إستخدام الحزب الشيوعى الحاكم للمشاعر القومية للشعب الصينى لتبرير رسومه الجمركية الإنتقامية فى مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ دعت وسائل الإعلام الرسمية فى الصين الشعب الصينى إلى “الصمود فى وجه العواصف معاً”. كما كانت نبرة الرئيس الصينى”شي جين بينغ” متحدية وواثقة. وطمأن الرئيس “شى” شعبه قائلاً: “إن السماء لن تسقط”.

وفى عهد الزعيم الصينى”شى” دخلت الصين فى سباق مع الولايات المتحدة للهيمنة على التكنولوجيا. وإستثمرت الصين بكثافة فى التكنولوجيا المحلية، من مصادر الطاقة المتجددة إلى الرقائق الإلكترونية إلى الذكاء الإصطناعى. ومن الأمثلة على ذلك (روبوت الدردشة الصينى ديب سيك)، الذى إحتفت به الصين وقدمته رسمياً كمنافس قوى لروبوت الدردشة الأمريكى (تشات جى بى تى، وشركة بى واى دى) الأمريكية، وأعلنت الصين بذلك تفوقها على (شركة تسلا الأمريكية)، المملوكة للملياردير الأمريكى “إيلون ماسك”، لتصبح الصين بذلك أكبر شركة مصنعة للسيارات الكهربائية فى العالم. أما شركة الهواتف الذكية الأمريكية “آبل”، فقد فقدت حصتها السوقية الثمينة محلياً لصالح منافستيها الصينيتين “هواوى وفيفو”.

وأعلنت بكين مؤخراً عن خطط لإنفاق أكثر من تريليون دولار على مدى العقد المقبل لدعم الإبتكار فى مجال الذكاء الإصطناعى للتفوق على واشنطن. وعلى الرغم من محاولة الشركات الأمريكية نقل سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين، إلا أنها واجهت صعوبة فى إيجاد البنية التحتية والعمالة الماهرة بنفس القدر فى أماكن أخرى بعيداً عن الصين. كما منح المصنعون الصينيون فى كل مرحلة من مراحل سلسلة التوريد، للصين ميزة نسبية إمتدت لعقود، وسيستغرق تكرارها أو إيجاد بديل لها وقتاً طويلاً بالنسبة للأمريكيين. ومن هنا نجد، بأن هذه الخبرة الصينية الفريدة فى سلسلة التوريد والدعم الحكومى جعلا من الصين خصماً عنيداً فى هذه الحرب التجارية مع واشنطن، ومن بعض النواحى، كانت بكين تستعد لهذه الحرب التجارية المتوقعة جيداً منذ ولاية “ترامب” السابقة ومعرفة عداؤه للصين.

فقد تنوعت الخطط الصينية فى مواجهة العداء التجارى الأمريكى تجاهها فى العديد من القطاعات. فمثلاً منذ أن فرض “ترامب” رسوماً جمركية على الألواح الشمسية الصينية عام ٢٠١٨، عجلت بكين خططها لمستقبل يتجاوز النظام العالمى الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. كما ضخت بكين مليارات الدولارات فى برنامج التجارة والبنية التحتية لمبادرة (الحزام والطريق الصينية)، لتعزيز العلاقات مع ما يسمى بدول “الجنوب العالمى” ودعمها فى مواجهة واشنطن.

كما وسعت الصين من حجم تجارتها مع جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، فى محاولة صينية لتقليص إعتمادها على الولايات المتحدة. فمثلاً كان المزارعون الأمريكيون يزودون الصين بـ ٤٠ من وارداتها من (حبوب الصويا الأمريكية)، بينما أصبحت هذه النسبة الآن حول ٢٠% بسبب الحرب التجارية الأمريكية على الصين، لذا جاء الرد الصينى على واشنطن بعد الحرب التجارية الأخيرة عليها من قبل إدارة “ترامب”، بتكثيف الصين (زراعة حبوب الصويا محلياً)، وإشترت الصين من أجل ذلك كميات قياسية من المحصول من البرازيل، التى تعد الآن أكبر مورد للصويا إلى الصين، بما يعزز مكانة الصين فى مجال (الأمن الغذائى) عالمياً.

وعقب ورود تقارير إلى الصين، تفيد بأن البيت الأبيض سيستخدم مفاوضات التجارة الثنائية لعزل الصين، حذرت بكين الدول من التوصل إلى إتفاق على حساب مصالح الصين، لعدم الدخول فى حرب تجارية مفتوحة مع الجميع. وسيكون هذا خياراً مستحيلاً بالنسبة لمعظم دول العالم. كما أن الولايات المتحدة لم تعد أكبر سوق تصدير للصين الآن، فقد أصبحت هذه المكانة الآن تابعة لجنوب شرق آسيا. حيث تعتبر الصين أكبر شريك تجارى لـ ٦٠ دولة حول العالم، أى ما يقرب من ضعف عدد الولايات المتحدة. وبصفتها أكبر مصدر فى العالم، فقد حققت الصين فائضاً قياسياً بلغ تريليون دولار فى نهاية عام ٢٠٢٤. كما أن الصين تمتلك أيضاً أكثر من ٧٠٠ مليار دولار من سندات الحكومة الأمريكية. وهذا ما يمنح بكين نفوذاً مضاعفاً، فقد دأبت وسائل الإعلام الصينية على الترويج لفكرة بيع أو حجب مشتريات السندات الأمريكية كسلاح.

وتعد أكثر نقاط الضعف الأمريكية فى مواجهة بكين، هو الإحتكار الصينى شبه الكامل لإستخراج وتكرير المعادن النادرة، وهى مجموعة من العناصر المهمة فى صناعة التكنولوجيا المتقدمة. وتمتلك الصين رواسب ضخمة من هذه المعادن، وجاءت رد الفعل الصينى لرسوم “ترامب” الجمركية الأخيرة عليها، بتقييد صادرات سبعة معادن أرضية نادرة، بما فى ذلك بعض المعادن الأساسية لصناعة رقائق الذكاء اإصطناعى المهمة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. وتشكل الصين حوالي ٦٠% من إنتاج المعادن الأرضية النادرة و ٩٠% من تكريرها، وفقاً لتقديرات وكالة الطاقة الدولية.

وبذلك نفهم، بأن الحروب التجارية بين الصين والولايات المتحدة خلال فترة الرئيس “ترامب”، تعد واحدة من أكثر النزاعات الإقتصادية تأثيراً حول العالم، فقد أدت هذه الحرب إلى إضطراب الأسواق العالمية وإعادة تشكيل التجارة العالمية وزيادة التنافس التكنولوجى بين واشنطن وبكين، وعلى الرغم من الإتفاقيات التجارية اللاحقة بين الطرفين، لكن لا يزال الصراع الإقتصادى بين البلدين مستمراً، خاصةً فى مجالات التكنولوجيا والإستثمار. ومن المتوقع أن تستمر هذه الحرب فى التأثير على مستقبل الإقتصاد العالمى وأسواق المال والعلاقات الدولية فى السنوات المقبلة، حيث تسعى كل من واشنطن وبكين إلى فرض نفوذهما الإقتصادى عالمياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *