كتبت أمل محمد أمين
في الخامس من نيسان/ أبريل، وصلت بعثة متعددة الوكالات، تحت قيادة منظمة الصحة العالمية، إلى مستشفى الشفاء في شمال غزة بهدف إجراء تقييم أولي لمستوى التدمير الذي أصاب المستشفى ولتحديد الاحتياجات لتوجيه الجهود المستقبلية الرامية إلى إعادة تشغيل المنشأة. وقد نُفذت هذه البعثة شديدة التعقيد عبر شراكة وثيقة مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ودائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام، وإدارة الأمم المتحدة لشؤون السلامة والأمن، وبالتعاون مع مدير المستشفى بالنيابة.
وقبل هذه البعثة، وخلال الفترة من 25 آذار/ مارس إلى 1 نيسان/ أبريل، حاولت المنظمةُ الوصول إلى المستشفى من أجل تنفيذ إجلاء طبي لفريق العمل والمرضى وإجراء تقييم للوضع، ولكن هذه المحاولات قد قُوبلت بالرفض أو الإرجاء أو الإعاقة ست مرات.
ومستشفى الشفاء، الذي كان أكبر وأهم مستشفى إحالة في غزة، لم يتركه الحصارُ الأخير إلا مخربًا خاويًا مدمرًا عن آخره، شأنه في ذلك شأن ما جرى لمعظم شمال قطاع غزة. ولم يبقَ في المنشأة مرضى نهائيًا. ومعظم المباني عانت أضرارًا بالغة أو تدميرًا شديدًا واسعًا، وصار أغلبها غير صالحٍ للاستخدام أو تحول إلى محض ركام. وقال فريقُ منظمة الصحة العالمية إن حجم الدمار قد أوقف المنشأة تمامًا عن العمل، الأمر الذي تسبب في تقليص فرص الحصول على الرعاية الصحية المنقذة للحياة في غزة. ويبدو أنه ليس بالإمكان إعادة تشغيل المستشفى في المستقبل القريب، ولو بالحد الأدنى، وسيتطلب الأمرُ بذل جهود كبيرة لتقييم وضع الذخائر التي لم تنفجر، وكذا إزالتها والتخلص منها، من أجل ضمان سلامة الشركاء وإمكانية وصولهم بما يتيح جلب المعدات والإمدادات.
وقد أصيبت مباني قسم الطوارئ والجراحة وجناح الولادة في المستشفى بأضرار جسيمة بسبب المتفجرات والحرائق. وهُدم الجدار الغربي لقسم الطوارئ والجدار الشمالي لقسم العناية المركزة لحديثي الولادة، وحُرق ما لا يقل عن 115 سريرًا في قسم الطوارئ، ودُمرت 14 حاضنة في وحدة العناية المركزة، بالإضافة إلى أصول أخرى. وأما تحديد ما إذا كانت هذه المباني آمنة للاستخدام مستقبلاً فإنه أمر يستلزم إجراء تقييم شامل ودقيق ينفذه فريق من المهندسين.
وعلاوة على ذلك، فلقد دُمِّرت وحدة الأكسجين التابعة للمستشفى، الأمر الذي جعل مستشفى كمال عدوان المصدر الوحيد لإنتاج الأكسجين الطبي في شمال القطاع. ومن الضروري إجراء المزيد من التقييم الشامل للوقوف على مستوى وأداء المعدات شديدة الأهمية، مثل ماسحات التصوير المقطعي المحوسب وأجهزة التنفس الصناعي وأجهزة التعقيم والمعدات الجراحية، مثل الأدوات الجراحية وأجهزة التخدير. وقد أدى الوضع الراهن إلى حرمان شمال غزة من قدرات التصوير المقطعي المحوسب وإلى تراجع كبير في القدرات المختبرية، الأمر الذي يضر بالقدرة على تشخيص الحالات تشخيصًا دقيقًا، وهو ما سيزيد من حدوث وفيات يمكن تجنبها.
وحُفرت العديد من القبور السطحية خارج قسم الطوارئ، والمباني الإدارية ومباني الجراحة. وفي المنطقة نفسها، دُفنت الكثير من الجثث جزئيًا، حتى إنه كان بالإمكان رؤية أطراف هذه الجثث بارزةً. وخلال الزيارة، شاهد موظفو المنظمة خمس جثث على الأقل مدفونة جزئيًا في الأرض، وأجزاء منها ظاهرة، ومعرضة للحرارة. وأبلغ الفريقُ عن أن الأجسام المتحللة تسببت في رائحة شديدة نفاذة تجتاح مجمع المستشفى. إن صون الكرامة، ومنها كرامة الموتى، عمل إنساني لا غنى عنه.
ووفقًا لمدير المستشفى بالإنابة، فإنه تم احتجاز المرضى في ظروف مزرية في أثناء الحصار. ولقد عانى المرضى نقصًا شديدًا في الغذاء والمياه والرعاية الصحية والنظافة الشخصية والصرف الصحي، وأجبروا على الانتقال بين المباني تحت تهديد السلاح. وقد أُبلغ عن وفاة 20 مريضًا على الأقل بسبب عدم الحصول على الرعاية ومحدودية الحركة المسموح بها للموظفين الصحيين.
ورغم التنسيق، واجهت بعثةُ الأمس تأخيرات كبيرة عند نقطة التفتيش العسكرية التي كانت في طريق البعثة إلى مستشفى الشفاء. وفي اليوم نفسه، كان ثمة بعثة أخرى بقيادة منظمة الصحة العالمية متجهة إلى مستشفيَي العودة وكمال عدوان في شمال غزة، بهدف إيصال الإمدادات الطبية والوقود ونشر فرق الطوارئ الطبية ودعم إحالة المرضى ذوي الحالات الحرجة. ولكن هذه البعثة هي الأخرى عانت تأخيرات غير ضرورية، ولعل أبرزها احتجاز سائق شاحنة الإمدادات الذي كان أحد أفراد القافلة. ولقد احتُجز السائقُ أكثر من ساعة في موقعٍ منفصلٍ، بعيدًا عن أنظار فريق البعثة. وفي نهاية المطاف، أُلغيت هذه البعثة بسبب مخاوف متصلة بالسلامة لأن التأخير لم يترك وقتًا كافيًا لإنجاز المهمة بأمان والعودة قبل حلول الظلام.
وخلال الفترة ما بين منتصف تشرين الأول/ أكتوبر ونهاية آذار/ مارس، رُفض أكثر من نصف العدد الكلي لبعثات المنظمة أو أُرجئت أو أُعيقت أو تأجلت. وفي ظل الزيادةِ الشديدة في الاحتياجات الصحية، فإن عدم وجود نظام فعال للتنسيق يمثل عقبة رئيسية أمام تقديم المساعدات الإنسانية – ومنها الإمدادات الطبية والوقود والغذاء والماء للمستشفيات – على أي مستوى يقارب المستوى المطلوب.
وبعد مرور ستة أشهر – أي نصف عام – على اندلاع الحرب، أدى تدمير مستشفى الشفاء ومجمع ناصر الطبي إلى كسر العمود الفقري للنظام الصحي المتعثر بالفعل. وقبل الحصارِ الأخير، قدَّمت المنظمة وشركاؤها الدعمَ لإعادة تشغيل الخدمات الأساسية في مستشفى الشفاء، وقدمت إمدادات بانتظام إلى مجمع ناصر الطبي لكي يواصل العمل كمستشفى رئيسي في جنوب غزة. وقد ذهبت هذه الجهود الآن سدى.
وبينما تحتفي منظمة الصحة العالمية غدًا بيوم الصحة العالمي، تحت شعار “صحتي، حقي”، فإن هذا الحق الأساسي بعيد كل البعد عن متناول المدنيين في غزة. ولقد صار مستوى الحصول على الرعاية الصحية في غزة غير مناسب على الإطلاق، وتعطلت قدرة المنظمة والشركاء على تقديم المساعدة ووضعت أمامهم العراقيل باستمرار.
ومن أصل 36 مستشفًى رئيسيًا كانت تخدم أكثر من مليونَي شخص من سكان غزة، فإن المستشفيات العاملة في القطاع الآن لا تزيد على 10 مستشفيات، تعمل بشكل جزئي، بالإضافة إلى قيود شديدة على أنواع الخدمات التي يمكن لهذه المستشفيات أن تقدمها. والتوغل العسكري المزمع تنفيذه في رفح لن يسبب سوى تفاقم الأزمة وتقليص فرص الحصول على الرعاية الصحية أكثر وأكثر، وسيكون له عواقب صحية لا يمكن تصورها. ولا بد من إنهاء التفكيك المنهجي للرعاية الصحية.
وتُكرّرُ المنظمةُ دعواتها إلى حمايةِ المرضى والعاملينَ الصحيين والإنسانيين والبنيةِ الأساسيةِ الصحيةِ والمدنيين. ويجب عدم عسكرة المستشفيات أو إساءة استخدامها أو الهجوم عليها. وتطالب المنظمةُ بآلية تنسيق فعالة وشفافة وقابلة للتطبيق، وبضمانات للسلامة، وضمان أن تكون حركة المعونة داخل غزة آمنة وسريعة ومخطط لها، حتى في نقاط التفتيش. وتطالب المنظمةُ بمعابر برية إضافية للسماح بالوصول إلى غزة والتحرك عبرها، بمزيدٍ من الأمان وبطرق مباشرة.
وفي حين أن شبح المجاعة يلوح في الأفق، ومع انتشار فاشيات الأمراض، وزيادة الإصابات الشديدة، تدعو المنظمة إلى وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة ومرورها خلاله دون عوائق، وإلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار.