بقلم : مينا عطا شاكر
إذا أردت أن تطير في السماء، عليك أن تترك الأرض، وإذا كنت تريد المضي قدمًا، فأنت بحاجة إلى التخلي عن الماضي الذي يسحبك إلى أسفل.
والقوة ليست في التمسك بالأشياء أو الحصول عليها بل في الترك والإستغناء عنها طالما لا يتبعه أذى أو ضرر، إلا إن كان يصب في خير أسمى، أكبر وأشمل يتبع لاحقا. ألا تتشبث بمن لا يحبك. ألا تنتظر خيرا ممن يهينك ويؤذيك. ألا تعيش وهما وتتوقع أو تنتظر ما لن يحدث. الاستغناء بمعنى أن تحتج وتسجل موقفا.
إن فلسفة المشي بعيدا، هي تلخيص لكسر الخوف… فك الروتين والإرتقاء بتنفيذ حسن الظن في نفسك وما تنتظره ذاتك منك.
وقد يبدو للبعض أن فعل الإستغناء عن البشر، اهل او صداقات به بعض الأنانية، لكنها في الحقيقة أنانية إيجابية، تتجه للصفاء النفسي وحالة السلام، فبعض العلاقات سمية مشوهة تضر اكثر مما تفيد وتحزن اكثر مما تفرح حتى لو تخللها الحب أحيانا. فإن الاضطرار لتركها يؤدي للخلق والابتكار والإبداع الذي بدوره سيفيد البشرية ويصلح المجتمع ويفرح الناس وينقل إليهم «الطاقة المنيرة» وبذلك تنتفي منه صفة الأنانية وأي سمة سلبية أخرى.
أحيانًا ما يترك المرءُ عادةً مِن عاداته بدافعٍ قاهر، كأن يكُفُّ عن تناول ما هَفَت إليه نفسه واشتهت مِن طعام؛ لعِلةٍ أصابته وأرهقَت جسدَه. غالبًا ما يكون التخلّي عن عادته وهَجْر رغبتِه، فعلًا مَنزوع الرضاء، مَصحوبًا بضيقٍ وتذمرٍ عارمين، وكلاهما لا يلتقيان وجوهر الاستغناء؛ إذ هو ينطوي على الشعور بعدم الاحتياج، ولا يتولد أبدًا عن قسر وإرغام. هو اختيار مُتحرر مِن المؤثراتِ كافةً ومِن الضغوطِ قاطبةً.
إن عاشقو السُلطةَ والمُتدلّهون في حبها، لا يطيقون عنها بعدًا ولا يصبرون على فراقِها؛ يتخذون مِن طرائق تأمينها، ووسائل حمايتها مِن العابثين؛ ما طالت أيديهم، وينشغلون ما عاشوا بالحفاظ عليها، لا يستغنون عنها بما دونها ولو كان الأجملَ والأرقى، ولا يُفلتون أبدًا مِن سجنها الحرير.
على الطريق ذاتها؛ يأتي الراغبُون في مَنصِب، والساعون وراءَ مَصلحةٍ، والرامون إلى قُربٍ من مَوضِع قوةٍ أو نفوذ؛ قد يقبلون المُساومةَ ويعقدون الاتفاقات، ويرحّبون بالتنازُلات؛ بل ويبادرون بها كثيرَ الأحيان. كهذا جرى العرفُ واستقرَّت العادةُ؛ أما المُستغنون بوجه عام، فلا يتملَّق أحدهم أو يُماري، لا يسلك دروبًا مُلتويةً، ولا تتأتى استمالتُه بجاهٍ أو سلطان.
الاستغناءُ قُوةٌ، وجَبروت المُستغني يخيف؛ فلا هو مُتلهف لشيء ولا خاضع لشيء، بل كائنٌ مُستعصٍ على الترويض.
والجدير بالذكر عزيزي القارئ أن الغَنِيُّ في معاجم اللغة العربية هو الذي لا يَحْتاجُ إلى أَحدٍ في شيءٍ، ولا ينتظر مِنَّةً أو عطفًا؛ فإذا امتهن رجلٌ عملًا ولو كان مُتواضع القيمة؛ فقد استعاض به عن المَذلَّة والمَسألة، وصار حينها في حال الاسْتَغْناء؛ لا يقع في مَشقَّة الطلب ولا تلحقه إهانةُ الصدّ والامتناع. يُقال إن خيرَ الصَّدَقَة ما أَغْنَيْتَ به إنسانًا عن سؤال الناس؛ أي ما قضيت به حاجته إليهم وكفيتها وجعلته مُستغنيًا.
قال حكيم: «أنا إذا غَلا عليَّ شيءٌ تَرَكتُهُ».
من أهم الفضائل التي لم يذكرها سقراط مكتشف الأخلاق، وبعده افلاطون مؤسس سلسلة المحاورات وفلسفة الأخلاق، وبعدهما أرسطو الذي أنزل الفلسفة من برجها النظري العالي للواقع، فتحدث عن فلسفة السعادة والوظيفة، هي فضيلة الاستغناء، أو القدرة على المشي بعيدا عما تعلقت وارتبطت به من أفراد، أشياء، عادات، وهي غير التخلي، بل الاستغناء لهدف أسمى، هو المحافظة على السلام النفسي والقدرة على التجدد والعطاء بشكل أفضل.
وليس من السهل ترك ما تعلقت به، بل يحتاج للكثير من الإيثار وقليل من الأنانية وحب الآخر أكثر من الذات. فمن أجل إسعاد الآخر تهديه أعز قطعة مجوهرات عندك، أو ساعتك المفضلة التي يحبها كثيرا.
وقال نجيب محفوظ : “كي لا تصاب بالخيبة، لا ترسم في مخيلتك أن أحدهم لا يستطيع الاستغناء عنك.” وقال ايضا الدكتور ابراهيم الفقي : “هناك أشياء وأشخاص وحتى أجزاء منا تسير معنا في رحلة حياتنا لغرض محدد ولفترة محددة وليس لمصاحبتنا طوال الرحلة لذلك حان الوقت أن تدعهم وشأنهم.”
في بعض الأحيان يكون الإستغناء عن الأشياء راحة نفسية. ويقول أنيس منصور “صدقني ليس هناك إنسان لا يمكن الاستغناء عنه.”
وقال وودي آلن “لدي قدرة كبيرة على الاستغناء عن أي شخص يشعرني أن وجودي في حياته لا قيمة له.”
وقال شارل ديغول : “إن القبور مليئة بالرجال الذين لا يمكن الاستغناء عنهم. ”
وقال هنري ديفد ثورو: “الإنسان يكون غنياً قياساً بعدد الأشياء التي يستطيع الاستغناء عنها.”
وقال عباس العقاد : “إن الذي يكل إلى الناس تقدير قيمته يجعلونه سلعة يتراوح سعرها بتراوحهم بين الحاجة إليها أو الاستغناء عنها.”
وقال لاروشغو: “من ظن أنه يستطيع لنفسه الاستغناء عن الغير، فهو مخطئ كثيراً، وأكثر خطأً منه ذاك الذي يظن أن الغير لا يستغنون عنه.
وقال دونالد هربان : ” “لسنا بحاجة لزيادة ثرواتنا بقدر حاجتنا لخفض احتياجاتنا، فالاستغناء عن الشيء كامتلاكه.”
وأما عن التخلي قال ستيف مارابولي : “أعظم خطوة نحو حياة من البساطة هي تعلم التخلي.” ومثال ذلك حياة الرهبان الذين عاشوا في البراري والجبال والمغاير وشقوق الأرض، عاشوا حياة زاهدة بسيطة، حياة نُسك شديد قد تخلوا واستغنوا فيها عن كل ما من شأنه أن يبعدهم عن محبة الله والقرب منه ، كما ولم تتعلق قلوبهم بأمتعة الزمان الحاضر التي لا تقاس بالمجد العتيد الذي سيستعلن فينا في الحياة الأبدية، فقد إستغنوا عن الناس بالله وبعشرته مقمعين أجسادهم ومستعبدينها لله وحده وليس لأي شهوة أرضية او متعة شخصية او أشياء مادية تفنى وتباد، فوجدوا كل ما أرادوا من السلام والهدوء والخلوة وأوقات تأمل ودراسة لكلمة الله وأعمال الخير والرحمة وعدم محبة العالم وتاركين محبة المال بعيداً، وغاصبين أنفسهم ليكونوا غالبين ومنتصرين على شهوات أجسادهم وأنفسهم وشهوات العالم الرديئة ومبتعدين أيضاً عن مَعَاشِرُ رديئة تبعدهم عن الخالق والمخلص ومحب بني البشر العظيم له عظيم المجد والكرامة، وكذلك كل إنسان يعيش في العالم غاصبا نفسه مثلهم ومستغنيا عن كل ما يعكر صفو حياته مع الله ومع المجتمع من حوله يعيش هنيئاً ويختطف ملكوت السماوات لان الكتاب المقدس يقول : ” والغاصبون يختطفونه” كما جاء في إنجيل معلمنا متى البشير في الأصحاح الحادي عشر عدد 12 : “وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ، وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ.”،
فكونوا ملاذ الإستغناء غصباً . . لأن العالم سئ بما يكفي.

