بقلم: محمد عبد الحليم صالح
يُقصد بالاحتراق النفسي Psychological Burnout وصول الفرد إلى مرحلة استنزاف الجهد وانخفاض الطاقة إلى أدنى مستوياتها؛ مما ينعكس على الفرد ببعض الأعراض مثل الشعور الدائم بالإجهاد، وفقدان التركيز، وسرعة الغضب، وانخفاض مستوى الدافعية والحماس والشغف الداخلي، وأوجاع متنقلة في بعض أجزاء الجسم والصداع المُزمن والأرق، وصعوبة التذكر، وعدم القدرة على العطاء المهني والاجتماعي، والرغبة في الانعزال، وعدم القدرة على التفكير أو التخطيط أو تنظيم المهام مما يتسبب في المزيد من تكدس المهام والواجبات المطلوب أداءها، والشعور الدائم بعدم القدرة على الاستمتاع بكافة الأنشطة الحياتية السارة التي كانت تثير المتعة والبهجة لديه من قبل.
ونجد أن أعراض الاحتراق النفسي تتشابه إلى حد بعيد مع أعراض مرض الاكتئاب؛ حيث انخفاض الطاقة النفسية والذهنية والجسدية والمزاجية إلى أدنى مستوياتها، ويرجع السبب في هذه الأعراض إلى استغراق الفرد في التعامل مع الضغوط والمهام والأعباء والمسئوليات التي تتطلب من الفرد قدرًا مرتفعًا من التركيز وبذل الجهد والطاقة بشكل مستمر بلا انقطاع لمدة زمنية طويلة دون أخذ فترات كافية من الراحة حتى يجدد فيها نشاطه النفسي والجسمي والذهني، فأدى به ذلك في النهاية إلى حالة الاستنزاف النفسي الكامل، ونضوب النبع الداخلي للطاقة لديه.
وعملًا بقانون الفروق الفردية يختلف بالطبع كل فرد عن الآخر في قابلية التعرض للاحتراق النفسي، وذلك باختلاف استعداده الجيني، وسمات شخصيته، ومهاراته الشخصية والاجتماعية، وطريقته في التفكير والتخطيط والتنظيم وكيفية إدارته للمهام وإدارته للوقت، ولكن يبقى أن لكل فرد رصيدًا ومخزونًا نفسيًا إن لم يحرص عليه ويسعى إلى تجديده باستمرار؛ يصبح مُعرّضًا للنفاد والإفلاس فيقع فريسة سهلة في زملة الاحتراق النفسي burnout syndrome، وحتى يحافظ الفرد على مخزونه ورصيده النفسي من النفاد، ويؤدي مهامه بكفاءة وإتقان، ينبغي الحرص على تحقيق الأمور الآتية كعلاج ووقاية أولية من التعرض للإصابة بأعراض الاحتراق النفسي:
أولًا: أن يحرص الفرد على ضبط توازن مجالات حياته، وذلك بإعطاء كل مجال حقه المطلوب دون الاستغراق في أي مجال منهم على حساب الآخر، فالحياة الإنسانية بطبيعتها لها أوجه ومجالات عديدة لا تقتصر على الجانب المهني فقط، ولكن هناك مجالات أخرى لها نفس القدر من الأهمية، مثل الجانب الاجتماعي، والجانب الروحي، والجانب الترفيهي، والجانب الجسمي، والجانب العقلي؛ ففي الجانب الاجتماعي على سبيل المثال ينبغي أن يحرص الفرد على تخصيص أوقات ممتعة يقضيها مع أسرته وعائلته ويندمج فيها معهم حتى يُنقذ عقله من الاستغراق الدائم في التفكير في مهام عمله، ونفس الأمر ينطبق على الجانب الترفيهي حيث قضاء الأوقات الممتعة في التسلية والاستمتاع وذلك بالخروج إلى الطبيعة ومناظرها المبهجة مثلًا أو ممارسة هواية مشوقة لديه، أما الجانب الروحي فيحتاجه الإنسان للدخول في حالات الصفاء النفسي والذهني والمزاجي، من خلال الشعور بالقرب من الله سبحانه وتعالى، ويكون ذلك بتأدية الصلاوات واستشعار الخشوع، والتأمل في إبداع الخالق لمخلوقاته، وتخصيص بعض الوقت للخلوة مع الله ومناجاته، وأما عن الجانب الجسمي فيتحقق فيه التوازن بالحرص على قضاء وقتٍ كافٍ للنوم المريح المتواصل وليس المتقطع، وكذلك الحصول على الغذاء الصحي، وممارسة بعض التمارين الرياضية حتى ولو كانت بسيطة في المنزل، وأما عن الجانب العقلي فيستطيع الفرد شحن طاقته الذهنية بقضاء أوقات تتيح للعقل الهدوء والسكينة، مثل تخصيص أوقات ثابتة للقراءة والاطلاع، وكذلك تخصيص أوقات لممارسة تمارين الاسترخاء والتأمل والتعقل، وهي تمارين نفسية ذات أثر بالغ في تجديد الحيوية الذهنية.
ثانيًا: من الأمور الواقية أيضًا من الاحتراق النفسي أن يبتعد الفرد عن أسلوب الكمالية في التفكير، ولا ينزلق إلى التفكير المثالي، لأن الكمالية في الأساس من أخطاء التفكير التي تُعجّل بالسقوط في مُعضلة الاحتراق النفسي، وقد أشارت بحوث عديدة في مجالي علم النفس المعرفي والإكلينيكي، إلى أن تفكير الفرد الذي يتسم بالمثالية والكمال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاعر الضغط النفسي وعدم التوازن الانفعالي، ذلك لأن هذا التفكير المبني على الرؤية المثالية للأمور تجعل الفرد في حالة من تراكم الضغوط الداخلية المستمرة، بل ويصاحب هذا التفكير أيضا سمة “التسويف” في إنجاز المهام وتأجيلها، لأن الشخص يضع لنفسه مجموعة من المعايير المرتفعة غير الواقعية للأداء التي يستحيل الوصول إليها، فعند حدوث بعض التعثرات ينعكس ذلك على الفرد بمشاعر الإحباط والخذلان، ومع تكرار هذا الوضع تتناقص الطاقة وينخفض منسوبها حتى تنفد، والأفضل من ذلك أن يحرص الشخص في عمله على وضع الأهداف الواقعية للنجاح بشكل منطقي، ويتعامل وفق القاعدة البشرية وليست الملائكية، فيستطيع الإنسان بذلك أن ينجز متطلباته ومهامه بالقدر المتزن الذي يرتضيه لنفسه طالما يتوافر فيه معيار الدقة والصواب قدر المستطاع، وقدر طاقة الجهد البشري المقبولة دون دخول العقل في دائرة المبالغات الوهمية.
ثالثًا: أن يحرص الفرد على المحافظة على إجازته الأسبوعية من عمله دون خرق لهذا الحق الأصيل له، ولا يتنازل عن هذا الأمر أبدًا، فإن مواصلة العمل بلا توقف يُسرّع بشكل ملحوظ إلى السقوط في فخ الاحتراق، نظرًا لما تحمله الضغوط من إيذاء للحساسية النفسية لدى الأفراد، ويُفضّل أن يخصص الفرد يوم الراحة لتجديد الحيوية البيولوجية والنفسية دون التواصل مع أي مصدر له علاقة بالعمل بشكل نهائي، وليكن الفرد في وقت فراغه حاضرًا “هنا والآن”، فلا يترك عقله يقع في شتات الأفكار حول الماضي والمستقبل، كذلك ينبغي الابتعاد عن الانشغال بأحوال الآخرين فإن راحة القلب والنفس تتجدد في الخلوة مع النفس والابتعاد قليلًا عن زحام الأخبار المكدسة والواردة من كل حدب وصوب.
رابعًا: أن يحرص الفرد كذلك على تنمية مهارات إدارة الوقت والمهام لديه، بحيث يحرص على تنظيم يومه من بدايته حتى نهايته، ويضع نظامًا لعمله غير قابل للخرق، حتى لا تتراكم عليه الضغوط والمهام والمسئوليات، فيحرص على تنظيم وجدولة مواعيده والتزاماته بشكل دقيق في مساء الليلة السابقة ليومه المخطط له، وكذلك يستخدم مهاراته التوكيدية في وضع حدود واضحة لحيزه الشخصي، ويستخدم حقه في قول كلمة “لا” أمام المتطلبات التي لا يستطيع تأديتها، وليست من مسئوليات عمله، حتى لا يصبح مُستباحًا طوال الوقت لتلبية رغبات الآخرين، وأن يحرص كذلك على فصل مجالات حياته عن بعضها البعض، فلا يأخذ معه مشكلاته الشخصية إلى مكان عمله، ولا يأخذ مشكلات عمله إلى حياته الشخصية، بل يحرص على أن “لكل مقام مقال”، وستنعكس هذه المهارات على واقع حياته بالرضا المهني والشخصي والاجتماعي لديه بشكل ملحوظ.
خامسًا: وهي الركيزة الأهم في الوقاية من الاحتراق النفسي، أن يستشعر الفرد قوة الاعتقاد والإيمان فيما يفعله ويؤديه في حياته، ذلك لأن من أكبر مسببات الضغوط النفسية عدم ثبات الشخص على مبدأ واضح ومحدد يسير عليه، فنجد أن أكثر الأشخاص الذين يعانون من مشاعر الاحتراق النفسي أولئك الذين يسيرون بلا رؤية واضحة في معالم حياتهم، وتمتلئ عقولهم بالأفكار المشتتة والمتضاربة، فيميلون مع كل فكرة بلا منطق واضح، بما يسمى ب “عبث الأفكار”، حيث تعبث الأفكار بعقولهم في كل اتجاه وتكون حالتهم النهائية التخبط وعدم الوضوح والاتزان؛ ولذلك فالأفضل والأجدى بالنسبة لهؤلاء الأشخاص أن يحددوا لأنفسهم رسالة محددة لحياتهم، وكيانًا واضحًا، ومبدأً ثابتًا يسيرون عليه، حتى ينقذوا أنفسهم من مشاعر الاحتراق الناتجة عن حالهم غير الواضح، ويتحقق لديهم بذلك شعور الرضا عن النفس وقيمة الحياة.
(فالحياة دائما تصبح ذات معنى عندما نحمل رسالة نؤمن بها ونكافح بشغف من أجل تحقيقها).