من يدرس أطفالنا معنى الإنسانية

بقلم: أحمد بدوي

في زمنٍ صار فيه الدم مشهدًا مألوفًا، وصوت القذائف خلفيةً يوميةً لنشرات الأخبار، نجد أنفسنا أمام سؤالٍ أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى ،من يعلّم أطفالنا أن يكونوا بشرًا ،من يغرس فيهم الرحمة قبل الحساب، والضمير قبل النجاح.

لقد أصبحت الشاشات التي نضعها بين أيديهم، تغمرهم بمشاهد الموت والدمار كأنها ترفيهٌ عادي. مشاهد لا تُفسَّر لهم، ولا تُواجه بسياجٍ من القيم، بل تُترك تنحت في وجدانهم مفاهيم مشوهة عن البطولة، والقوة، والعدالة.

هل نعلّم أبناءنا أن الإنسانية ليست درسًا في كتاب، بل سلوك يُمارس، أم نغرقهم في جداول رياضية، ومعادلات جامدة، وننسى أن أزمتنا الحقيقية ليست في العقول، بل في الضمائر.

ما نشهده من جرائم مروّعة، وسلوكيات غريبة عن مجتمعاتنا، لم تأتِي من فراغ. لقد انهارت منظومة التربية، وتغيّبت القدوة، وتوارى المعلم الحقيقي خلف مناهج تخلو من الروح. لقد زرعنا فيهم حب النجاح، لكن نسينا أن نعلّمهم كيف يكون النجاح نبيلاً.

في وطنٍ كان يتغنى يومًا بأنه “وطن القيم” تحوّلنا دون أن ندري إلى مجتمع يربّي القسوة، لا لأنه فاسد، بل لأننا تخلينا عن مسؤوليتنا الأولى التربية على الإنسانية.

من يشرح لهم أن الاحتلال ليس حقًا، وأن القتل ليس بطولة،أطفالنا يرون في نشرات الأخبار ما لا يجب أن يراه بشر، ومهما صغر سنّهم، تُصبغ ذاكرتهم بمجازر تُرتكب بدم بارد، كما تفعل آلة الحرب الإسرائيلية كل يوم في فلسطين. فلا أحد يخبرهم أن ما يحدث ليس طبيعيًا، وأن المجرم لا يُمكن أن يصبح بطلاً، وأن الأرض لا تُسرق شرعًا، والتاريخ لا يُكتب بالبندقية.

الدراما أيضًا خانت رسالتها، فتحولت من مرآة للمجتمع إلى مرآة للكراهية والعنف. وأصبحت تسوّق لـ “البلطجي” كبطل، وتحمل السلاح كرمز للقوة. هذه الصناعة نفسها، التي يفترض أن تربي الذوق، أصبحت تُربي العنف.

فأين هي مادة “الضمير”لماذا لا نعلّم في مدارسنا بشكل حقيقي لا شكلي كيف يكون الإنسان إنسانًا. لماذا لا نزرع في المناهج مكانًا للرحمة، للخير،للتطوع، لفهم الآخر، لماذا نُغرقهم بالمعلومات، ونترك قلوبهم خاوية من المعنى.

الوقت ليس متأخرًا، لكن لا بد من ثورة تربوية. ثورة لا تبدأ من تغيير المناهج، بل من إعادة ترتيب أولوياتنا ككبار. أن نقرّ أن التربية ليست رفاهية، بل هي خط الدفاع الأول عن مستقبل الأمة.نحتاج أن نُدرّس أطفالنا أن النظرة تُحيي، والكلمة تجرح، وأن بناء الإنسان أهم من بناء الأبراج. نحتاج أن نقول لهم: كن إنسانًا أولاً، وبعدها افعل ما شئت.وقبل أن نلوم هذا الجيل، فلنواجه الحقيقة، من الذي ربّاهم من الذي غاب عنهم من الذي تركهم يتغذون على صور القتل، ولم يمنحهم لقاح الرحمة، نُخرّج أجيالًا تعرف كل شيء، إلا كيف تكون رحيمة.مثقفون، نعم. لكن بلا وعي.ناجحون، نعم. لكن بلا قلب.إذا أردنا أن نوقف دوامة العنف، فعلينا أن نبدأمن الطفولة.فقط حين نعلّمهم أن الإنسانية ليست خيارًا، بل هوية، يمكننا أن نحلم بغدٍ أفضل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *