كتب: محمد عبد الحليم صالح
إن من أكبر أخطاء التنشئة الوالدية التي تتسبب في ظهور كثير من الاضطرابات النفسية لدى الأبناء هو “سلوك الكذب” المتكرر الصادر عن الآباء والأمهات سواءً أكان هذا الكذب بشكل مباشر أم غير مباشر؛ ونلاحظ أن هذه القضية لم تأخذ حقها بالقدر الكافي من الطرح العلمي داخل الكتب والمراجع المنوطة بالتنشئة النفسية السوية، غير أن البحث والاستقصاء داخل مشكلات بعض الحالات النفسية التي تتلقى العلاج النفسي تجعلنا نستكشف معالم وقع هذا السلوك غير الأخلاقي في الإضرار بالتكوين النفسي والشخصي للأبناء؛ مما يتسبب في تهيئتهم للإصابة بالمتاعب والاضطرابات النفسية في مراحل عمرهم اللاحقة.
ويُعد سلوك الكذب أسوأ المعايب الأخلاقية والشخصية على الإطلاق، فهو الصفة المذمومة التي يترتب عليها سائر النقائص والأخطاء السلوكية؛ ورغم أن الكذب صفة قبيحة في حق أي إنسان إلا أن قبحه يتضاعف إذا صدر عن الآباء والأمهات تجاه أبنائهم لأنهم بذلك يسيئون لأنفسهم ويسيئون كذلك لمن يتحملون مسئولية رعايتهم؛ فالأبناء يعتبرون والديهم قدوات لهم يأخذون عنهم مبادئ الحياة وقيمها، كما أن نظرة الأبناء غالبًا ما يكسوها التوقير والتعظيم والتنزيه لآبائهم وأمهاتهم عن النقص الأخلاقي، ودائمًا ما ينتظرون منهم أن يكونوا على قدر هذه النظرة من الاحترام حتى لا يسقطوا من أعينهم فتنهار حينها مبادئهم وربما كيانهم الشخصي والنفسي بأكمله.
والكذب في تعريفه الدقيق والمباشر “إدعاء ما يخالف الواقع، وتزييف الحقائق كلها أو بعضها بهدف تحقيق المنافع الشخصية على حساب الالتزام بالسلوك الصادق”؛ ويعتقد كثير من الآباء والأمهات أن الكذب على الأبناء شيئًا هينًا يمر مرور الكرام ولا يؤثر على اتزانهم النفسي؛ غير أن الضرر والعواقب لا يُستهان بها من جراء هذا المسلك غير الأخلاقي، وفيما يلي نعرض بعض هذه العواقب والأضرار النفسية والشخصية التي قد يتعرضون لها:
معاناة الأبناء من بعض الاضطرابات النفسية بسبب صراعهم الداخلي الذي يجدونه حين تختلف صورة القدوة التي كانوا يقدّرونها والصورة الواقعية التي تم كشفها عند اكتشاف الأكاذيب المتكررة لهذه القدوة، وعلى رأس هذه
الاضطرابات النفسية: الاكتئاب وضعف الثقة بالنفس والقلق والشعور الدائم بالتهديد خاصة عند تعميم النظرة إلى العالم كله بأنه غير آمن وغير صادق.
ميل الأبناء إلى العدوانية وذلك كرد فعل مباشر بسبب الاعتقاد في أنهم مخدوعين من قِبل القائمين على رعايتهم، ومن كانوا يشعرون معهم بالثقة التامة كقدوات صادقة ثم خذلوهم عند اكتشاف حقيقة أكاذيبهم المتكررة عليهم.
شعور الأبناء بكراهية الوالدين عند غياب صدقهما في أمور عديدة وذات أهمية في حياتهم؛ فعند ذلك تتحول مشاعر الأبناء من مشاعر الحب إلى مشاعر الكراهية بشكل متطرف، وقد يصل الأمر عند بعضهم إلى وجود رغبات انتقامية لديهم حتى ولو في أبسط صورها مثل وجود مشاعر الشماتة عند وقوع أي ضرر لأحد الوالدين من عواقب ممارسته لسلوك الكذب.
محاولات الأبناء لتبرير الكذب لأنفسهم واستباحة هذا المسلك غير الأخلاقي في حياتهم؛ إذ إن القدوة التي كانوا يتمثلونها في حياتهم وجدوا أنها تحترف ممارسة هذا السلوك؛ فماذا عن الأبناء وهم الأصغر والأضعف والأقل خبرة وحكمة في الحياة؛ فمن هنا يظهر لديهم هذا التبرير وهو يحمل في طياته أيضًا مشاعر العدائية والصدام مع الوالدين، وكأنهم ينتظرون أن يتجه أحد الوالدين إليهم بالمعاقبة على الكذب فيفاجئه الابن بالرد: “أنت أكثر كذبًا مني، وما تعلمت الكذب إلا منك، ولا يمكنك أن تعاقبني على أمر أنت تفعله” فكيف يستطيع الوالدان في هذا الحال الرد على هذا الكلام من أبنائهم.
ضعف ثقة الأبناء في أنفسهم وتدهور القدرات الشخصية؛ إذ يشعر الأبناء بانعدام قيمتهم الذاتية وأنه لا اعتبار لهم ولا وجود ولا قيمة في نظر آبائهم، مما جعلهم يستهينون بهم وإحاطتهم بأشكال الأكاذيب المتنوعة؛ وهو ما قد يتسبب بالضرورة في الإضرار بالمستوى الدراسي والتعليمي والمهني لديهم؛ لأن صراع الأبناء النفسي عند اكتشاف كذب آبائهم يجعلهم في حيرة وقلق مما يشعل في عقولهم تضارب الأفكار وتشتت الانتباه وكثرة الرؤى المختلطة داخل عقولهم، وكذلك ضعف التركيز مما يتسبب في ضعف وبطء القدرات العقلية لهم.
فقدان الشعور بالمسئولية، حيث يتبلور داخل الأبناء منذ بداية تكوينهم النفسي أن الكذب والتحايل قد يكون سلاحًا ناجحًا يستطيعون أن يستخدموه لتيسير أمورهم وتحقيق منافعهم بأية وسيلة ملتوية، وذلك بديلًا عن الالتزام بالطريق القويم من الصدق وتحمل المسئولية.
انعدام الثقة في العلاقات الاجتماعية إذ إن الآباء يمثلون للابن بداية العلاقات الاجتماعية السوية والآمنة؛ وسلوك الكذب في ذاته كفيل بأن ينهي كل شئ جميل داخل العلاقات من الصداقة والود والاحترام والمحبة؛ فعند اكتشاف التهديد في مصداقية هذه العلاقات يشعر الابن بأنه لا يستطيع الوثوق في أي إنسان آخر، وعندها تتسلل أفكار الشك والريبة داخل تكوينه العقلي وتتحول إلى معتقدات ثابتة، فلا يستطيع بعدها تكوين علاقات اجتماعية سوية مع الآخرين، بل يظل يعاني من اضطراب التفكير البارانويدي “الارتيابي”، وبذلك فقد أشارت بعض البحوث الإكلينيكية المعاصرة أن هذا النمط من التفكير المضطرب يتسبب في معاناة الأشخاص من أمراض نفسية عديدة: كالقلق والاكتئاب والعدوانية والعنف واضطراب الشخصية الحدية والبارانويدية والتجنبية.
من كل ما سبق، كان لزامًا التنويه إلى خطورة وعواقب سلوك الكذب الذي يصدر من الآباء والأمهات تجاه أبنائهم سواءً أكان بشكل مباشر معهم أم بشكل غير مباشر يراه الأبناء في سلوكيات الآباء مع غيرهم، وإن الرسالة التي نود أن نوجهها من خلال هذه المقالة هي ضرورة حرص الوالدين على مراعاة تحري الصدق في القول والفعل أمام الأبناء وتجاههم؛ وتصديقًا لهذا فإن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد حذّر من هذه الصفة المذمومة في قوله: “من قال لصبي تعال أعطك؛ ثم لم يعطه شيئًا فهي كذبة”، ونجد في هذا الحديث لفت الانتباه لعدم الاستهانة بهذه القضية وعواقبها النفسية على الأبناء.