جذور الأمراض النفسية

بقلم: محمد عبد الحليم صالح

من أشهر التساؤلات المطروحة بقوة والتي غالبا ما تتردد داخل العيادة النفسية وخارجها: “من أين تأتي الإصابة بالمرض النفسي؟.

ويأتي هذا التساؤل في ظل الاعتراف بأن الإصابة بالأمراض العضوية تكون في الغالب معلومة المصدر ومحددة الأسباب الطبية المباشرة سواء كانت نقص في المناعة، أم إصابة فسيولوجية، أم عدوى فيروسية أم غير ذلك، أما الأسباب والجذور التي تقف خلف الإصابة بالمرض النفسي فهي عند غالبية الأفراد غامضة وغير واضحة أو محددة، وبالطبع فإن الحديث عن كافة أسباب الإصابة بالأمراض النفسية على اختلافها وتنوعها وتعددها من الصعب إحصاءها و الحديث عنها تفصيلا في مقالة واحدة، غير أن حديثي سيدور عن الجذور الأساسية العامة التي تمثل القاسم المشترك في التعرض للإصابة بالأمراض النفسية على حد سواء.

إن أصل جذور الأمراض النفسية تبدأ من العوامل البيولوجية الجينية وهي ما تمثل الاستعداد والتهيؤ داخل البنية النفسية لكل فرد، فإننا نجد بعض الأفراد يتسمون بحساسية مرتفعة وقابلية للإصابة بالمرض النفسي دون غيرهم، فهم يملكون عوامل مزاجية ووجدانية تتصف بالتوتر والصراع الداخلي وعدم الثبات والاستقرار الانفعالي مما يمثل تربة خاصة لنمو المرض النفسي بداخلها، ثم يأتي أيضا عامل آخر في غاية الأهمية وهو المتمثل في أساليب التنشئة الاجتماعية وخاصة في مراحل العمر الأولى منذ الطفولة والمراهقة، وهذه الأساليب من شأنها أن تتفاعل مع العوامل البيولوجية الجينية سواء إيجابا أم سلبا، فإذا كانت البنية الجينية مفرطة الحساسية ومليئة بشحنات الصراع والتوتر الداخلي، ثم تعرّض نفس الشخص لأساليب خاطئة في التنشئة مثل أساليب القسوة والتسلط والنقد المستمر والتوبيخ القاسي المتعمد، أو أساليب أخرى مثل الإهمال وعدم الرعاية وعدم الاهتمام، أو أساليب الرفض والنبذ والاستهجان والذم المستمر والمقارنة غير العادلة مع الآخرين، أو أساليب التدليل والحماية المفرطة والخوف الزائد على الأبناء، وغير ذلك من أساليب التنشئة الخاطئة وما قد تنتجه بعد ذلك من أساليب غير سوية في التفكير يشوبها الخلل والاضطراب في الحكم على الأمور، ففي هذه الحالات يصبح هذا الشخص قابلا بنسبة مرتفعة للإصابة بالمرض النفسي أيا كان نوعه فيما بعد، لذلك فنحن نعتبر أن الاستعداد الجيني بجوار أساليب التنشئة الأولى تمثل “عوامل مهيئة للمرض النفسي”.

ثم تأتي بعد ذلك ما نسميه بمصطلح “العوامل المُفجّرة” وهي تعني مرور الفرد بأزمات وأحداث حياتية ضاغطة أو صادمة مما يتسبب حينئذ بإعلان الوقوع في المرض النفسي فعليًّا، ولكن ما نود الإشارة إليه في هذا المقام أن العامل المفجر ليس هو الأساس في التعرض للمرض النفسي كما يعتقد كثير من الأشخاص، فنسمع كثيرا ما يتردد من إرجاع الإصابة بالمرض النفسي إلى واقعة بعينها أو موقف صادم معين، أو ضغوط حياتية يتعرض لها الفرد، فكل هذه الأمور هي فقط عوامل مفجرة للاستعداد المهيئ والذي هو كامن داخل شخصية الفرد منذ البداية لذلك فالعامل الحاسم والأهم هو “العامل المهيئ” سواء كان من الناحية الجينية أم بفعل أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة، ومن الطبيعي أن العامل الجيني يقع خارج إرادة الفرد وسيطرته والتحكم فيه، لذلك كان لزامًا ومن باب أولى الحرص والاهتمام بأساليب التنشئة كي تصبح إيجابية مستقيمة ومعتدلة منذ مراحل العمر الأولى، وهنا يكمن الخطر الأكبر والمسئولية العظمى على عاتق المربين، فإن هذه الأساليب هي التي قد تدعم العامل الجيني المضطرب فتزيد من رسوخه وأثره الفاعل داخل الشخص فينكسر لأبسط الأحداث وأمام أصغر الضغوط، أو تكون سببا في تحجيم هذا الأثر وتعديله ولو بشكل نسبي بما لا يسمح بظهور الحساسية النفسية المُفضية إلى الأمراض النفسية فيصبح شخصًا ذا صلابة نفسية وصمود إيجابي في وجه الأحداث الضاغطة والصادمة بل ويستطيع التعامل مع مجريات أحداث الحياة وفق المنظور الإيجابي المتأجج بالطاقة والحيوية النفسية البناءة؛ ولذلك فالتوصية هنا واجبة على المربين بأخذ الحذر كل الحذر عند التعامل مع الأبناء في تشكيل سماتهم وطبائع شخصياتهم وأساليبهم في التفكير فهي بوابة الاستعداد المهيئ للمرض النفسي.

وأود في هذه المقالة أيضا أن أوجه بعض التوصيات الوقائية لكل فرد من أصحاب البنية النفسية المهيئة للتعرض للإصابة بالمرض النفسي وذلك حرصًا عليهم كي لا يقعوا في معاناته مستقبلًا عند التعرض لأزمات الحياة:
**ضع أهدافًا عُليا في حياتك واحرص على التحرك نحوها خطوة بعد الأخرى حتى تستشعر طعم النجاح والإنجاز.

اصنع لنفسك عالمًا خاصًا بك تستمتع فيه بكل اهتماماتك وتنمية قدراتك وكفاءاتك ومواهبك وقراءاتك الخاصة وصحتك البدنية، واحرص على هذه الدائرة الخاصة بك فمنها ستنطلق صوب النجاح والتميز.

حافظ على حيزك الشخصي ولا تسمح لأحد باختراقه واستعمل حقك في قول كلمة (لا) مؤكدا لذاتك، ولا تضع نفسك موضعًا يقلل من قيمتك واحترامك لذاتك، ولا تجعل نفسك عرضة لتحمل أعباء فوق أعباءك إرضاءً لأحد، مهما كلفك الأمر.

لا تسلم عقلك لكل فكرة تقال لك، فغالبية الأفكار تحمل وجهات نظر أصحابها ولكنها ليست حقائق ملزمة لك، حتى لا تضيع بين الأفكار المتناقضة.

لا تشغل نفسك كثيرا في التفكير في أحوال الآخرين، ولكن انشغل بحال نفسك في تنمية قدراتها وإصلاح معايبها.

لا تجعل الفوضى والعشوائية تتسرب إلى نظام حياتك، ولكن كن مُنظمًا لأوقاتك في أداء كافة المهام والمسئوليات حتى تشعر بالراحة النفسية والهدوء العقلي.
**اجعل لك أوقاتًا لإعادة تقييم نفسك لتنظر ما قد تحقق من أهدافك وما الذي تود أن تحققه وتسعى نحو إنجازه.

أكثر من مرافقة الصادقين، وابتعد عن الكاذبين والمراوغين فهؤلاء عبئًا على طاقتك النفسية.

اجعل الله أمامك في كل فعل وقول، وتعامل بنية صادقة؛ ثم لا تلفت بعد ذلك لآراء الآخرين وأهواءهم في الأحكام.

مهما كانت الأحداث والضغوط، تمسك بأهدافك وطموحاتك واجعل التفاؤل كأنه الشمس لحياتك لا تغيب، واعلم أن الذي يرضي الله عنك هو أن تحسن الظن به في كل أوقاتك وحالاتك، فإن له الحكمة العليا في كل تدابير الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *