الهجرة النبوية الشريفة “رحلة النور” 

كتبت: دعاء سيد 

في أصعب لحظات التاريخ الإسلامي، حين اشتدت وطأة الظلم على المؤمنين وبلغت قريش في أذاها مبلغًا عظيمًا، جاءت الهجرة النبوية كنقطة تحول عظيمة، ليست في مسيرة النبيِّ (ﷺ) فقط؛ بل في مصير أمة كاملة فهى ليست مجرد انتقال من مكة إلى المدينة؛ بل هي تحول إلهي عظيم في مسار العقيدة ومعجزة عظيمة اختلطت فيها مشاعر الألم بالأمل والخوف بالثبات والاضطهاد بالنصر، وسُطّرت تفاصيلها في القرآن الكريم وتُرِكت للبشرية درسًا خالدًا في الإيمان والتضحية.

على مدار ثلاث عشرة سنة في مكة، واجه النبيُّ (ﷺ) وأصحابه صنوفًا من الاضطهاد النفسي والجسدي، قُتل من قُتل وعُذّب من عُذّب وحُورب الإسلام في أهله ودعوته، وقد بلغت الأذية مبلغًا شديدًا، مما دفع المؤمنين إلى البحث عن مأمنٍ لدينهم ونبيهم، قال اللُّه -تعالى-:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(الأنفال: 30).

الهجرة لم تكن فعلًا عشوائيًا؛ بل كانت بتخطيط دقيق، فحين أُوحي إلى النبيِّ (ﷺ) بالإذن بالهجرة، أعدّ لذلك سرًا واختار أبا بكر الصديق رفيقًا وجهّز كل ما يلزم للرحلة، واستأجر دليلًا ماهرًا وهو عبد الله بن أريقط، رغم أنه لم يكن مسلمًا؛ لكنه كان أمينًا، فالتوكل على اللِّه -عز وجل- لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، فالنبيُّ (ﷺ) جمع بين الإيمان العميق والإعداد الدقيق، قال النبيُّ (ﷺ): “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللِّه ورسوله فهجرته إلى اللِّه ورسوله…” (رواه البخاري ومسلم).

اجتمع زعماء قريش في دار الندوة، وقرروا قتل النبيَّ (ﷺ) بضربة رجل واحد من كلِّ قبيلة؛ لكن اللّٰه أحبط كيدهم، أمر النبيُّ (ﷺ) عليّ بن أبي طالب -رضى اللُّه عنه- أن ينام في فراشه وخرج في ظلمة الليل، وقرأ قول اللّٰه -تعالى-:{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}(يس: 9)، فأعمى اللُّه -سبحانه وتعالى- أبصارهم عنه، ثم انطلق النبيُّ (ﷺ) وأبو بكر إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاث ليالٍ حتى خفَّ طلب المشركين، وقد خلد القرآن الكريم هذا الموقف الجليل في قوله -تعالى-:{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}(التوبة: 40).

عندما اقترب النبيُّ (ﷺ) من المدينة، استقبله الأنصار بفرحٍ عظيم ورحبوا به أعظم ترحيب، وقالوا:”طلع البدر علينا من ثنيات الوداع…”، وأول ما فعله النبيّ (ﷺ) بناء المسجد النبوي الشريف، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار ووضع وثيقة المدينة التيّ نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود وسائر سكان المدينة.

كانت المدينة نقطة الانطلاق لبناء دولة الإسلام، دولة العدل والمساواة، حيث أُقيمت الصلوات وفُرضت الزكاة وانطلقت السرايا وشرع اللُّه الأحكام، وبدأ عصر التمكين بعد عهد الاضطهاد، قال اللُّه -تعالى-:{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(الحج: 41).

الهجرة النبوية ليست حدثًا تاريخيًا مضى؛ بل هي مدرسة حية لكلِّ من يسعى للنهوض والتغيير والصبر على طريق الحق، فكلّ خطوة في هذه الرحلة المباركة كانت بوحيٍ من اللِّه -تعالى- وتخطيط من نبيّه (ﷺ) وتضحية من صحبه -رضى اللُّه عنه-، فكان النصر حليفهم والنور طريقهم، والقرآن الكريم خير ما خلد تلك الرحلة قال اللُّه -تعالى-:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر: 8)، فالنصر لا يأتي إلا بعد البلاء، والفرج قريب مهما اشتد الظلام.ا اشتد الظلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *