بقلم عبد الله نور الدين مدير النشاط الثقافى بمكتبة القاهره
ظهر الشرق والغرب , ذلك الزوج المصنوع من التعارض والتجاوز العريق وكأنه أحد ثوابت التأريخ المتوسطي , انه تعايش إشكالي لجوهرين أساسين يؤثر كلا منهما في الأخر , يتمازجان في السلم كما في الحرب دون ان يختلطا بشكل دائم , وأن التكامل والاختلاف فيما بينهما يشبه ذلك الذي بين الزيت والخل , ولان مذاق مزجهما قد يكون لذيذا إلا أن طعم الخط الفاصل بينهما سرعان ما يعود للظهور , ويبدو ان هذا الخط موجود منذ أقدم العصور , ويوحي كل ما حصل كما لو أن الشرق والغرب كانا منذ القدم مشتبكين في مواجهة مذهلة غير مستنفذة , كان المتوسط فيها هو المركز فهو منطقة التنازع ومنطقة الانفصال في آن واحد وبذلك فان الاستشراق من حيث الرؤية العامة النظرية , يفترض رؤية موضوعية لتاريخ العلاقة التاريخية القديمة والوسيطة والحديثة بين الشرق والغرب من اجل التواصل الحضاري الروحي ،وبذلك تعددت أهدافه بين الدينيه والعلمية والسياسية كانت الأهداف الدينية هي المحرك الأساسي والأوّلي لنشأة علم الاستشراق , ولقد كان ذلك نتيجة طبيعية لمحاولة وقف المد الإسلامي المتنامي اتجاه الغرب الاروبى , حيث خرج العرب فاتحين لأجزاء كبيرة من أوروبا مع سرعة انتشار الإسلام , فشعرت أوروبا بالخوف والرهبة من ذلك المارد الجديد الذي عجزت عن مقاومته القوة العسكرية وجحافل الجيوش , وبدأ التفكير في وسيلة أخري يمكن من خلالها معرفة شخصية المسلمين وما هو السر الذي يقف بقوة وراء هؤلاء الفاتحين،فحثت اوروبا علمائها ورجالها علي دراسة الاسلام والمسلمين والشرق , حيث ان مواجهة الاسلام وتحجيمه والتحرر من الخوف والرهبة لا يتأتى لها الا عن طريق الدراسة الواعية لذلك الشرق في ديانته ولغته وفلسفاته وعلومه وآدابه تلك التي أسهمت بنصيب وافر في تكوين الشخصية العربية وتشكيلها بعد ظهور الإسلام ، ومما يدل علي أن أهداف الاستشراق في تلك المرحلة الاولي قد صبغت بالصبغه الدينية البحتة هي ان اعمال الاستشراق من ترجمات لمعاني القرأن أو من البحث في العلوم الاخري قد قامت علي أيدي رجال دين، حيث سعي رجال الدين الي تعلم اللغه العربية والتضلع في الدراسات الإسلامية بغية فهم هذا الدين ثم نقضه من أساسة ورد أتباعه الي ديانتهم ،ومن المهم ان نشير الي اهم الوسائل والآليات التي اتخذها الاستشراق سبيلا لتحقيق الغايات الدينية بجانبيها الايجابي والسلبي إنشاء كراسي اللغات الشرقية في الجامعات الأوروبية لترجمة القرآن والكتب العربية ،كذلك قيام المستشرقون ببحوث ودراسات تضرب في اتجاهين أحدهما الهجوم علي الإسلام والتشكيك في مصادره ( القرآن والسنة ) وفي عقائد نبيه وتعاليمه ، والاتجاة الثاني هو شرح عقيدتهم وتأييدها بالدليل والبرهان ويؤكد تلك الأهداف ما قاله المستشرق الألماني المعاصر رودي بارت الذي حدد هدف الاستشراق الديني في وضوح وصراحة في تلك الفترة قائلا
” كان الهدف من هذه الجهود الاستشراقية في ذلك العصر وفي القرون هو اقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الاسلام (5) هكذا كانت ملامح الاستشراق الديني في تلك المرحلة التاريخية ومع ذلك فقد بقي العالمين الغربي والاسلامي متجاورين مدة تزيد عن اربعة قرون وكان معرفة كل فريق بالأخر ضئيلة للغاية بالرغم من الدراسات التقريبية الخالية من الحيدة العلمية التي صورت المسلمين بصور يشوبها الخيال أكثر من الحقيقة .
تعتبر الأهداف السياسية للاستشراق هي امتداد لا يمكن فصله عن الأهداف الدينية حيث أن أوروبا لم تنسي هزيمتها المريرة التي منيت بها في حروبها الصليبية في الشرق تلك الهزيمة التي غزت شعورا عدائيا لدي الروح الأوروبية اخذ يتنامي ويتعاظم حتي لاحت للغرب فرصتة الذهبية للانقضاض علي الشرق الإسلامي فكان الاستشراق هو سلاحه الاول الذي استعان به في دراسة كل شئون الشرق من عقيدة ولغة وحضارة واجتماع وعادات وتقاليد وأخلاق ليتعرف علي مواطن القوة فيضعفها وعلي مواطن الضعف فيغتنمها أي ان الاستشراق قد ادي دورا كبيرا في التهيئة والتمهيد لاستعمار العالم الشرقى.
اذا فقد كانت المهمة التي اضطلع بها المستشرقون ذاتيا أو بتكليفا من جهات أخري هي ان يقدموا لمجتمعاتهم الغربية صورا عن الشرق محكومة بأطر وتوجهات معينة مما يجعلنا نؤمن بوجود علاقة وثيقة بين السياسة والاستعمار والاستشراق , وأن امكانية استخدام الافكار المستنبطة حول الشرق من الاستشراق لأغراض سياسية هو حقيقة هامة ومؤكدة ، واختتم الأهداف السياسية بقول المستشرق المعاصر استفان فيلد داعما تلك الحقيقة السابقة بقولة ” والاقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون انفسهم مستشرقين قد سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين وهذا واقع مؤلم ،وهكذا يتضح لنا ان دور الاستشراق كان هو التمهيد والتخطيط للحركات الاستعمارية والاحتلال الاوروبي لبلدان الشرق , ثم مساندة ذلك الاحتلال ومعاونته علي تحقيق أهدافه , وتثبيت أقدامه عن طريق تقديم النصائح والإرشادات والمعلومات .
ان اهتمام المستشرقون بمعرفة الشرق في لغاته وادابه وعلومة وفلسفاته وفنونه , يعد في ذاته عملا انسانيا له قيمته التاريخية ودورة الايجابي في المعرفة بالشرق وحضارته ،فقد كانت الدوافع العلمية ذات شأن عظيم في حركة الاستشراق خصوصا في توجهها نحو الشرق العربي الاسلامي , من حيث تميز هذا الشرق عن العوالم الشرقية الاخري بخصوصية وتفرد في حضارته وثقافته الي جانب قربه الشديد من اوروبا , وعلاقته المتوترة بها فيما قبل الحروب الصليبيه وأثنائها وفيما بعدها , وكونه بحضارته وعلومة وديانته يمثل خطرا قائما بالفعل أو محتملا في المستقبل يتهدد الغرب فكانت الاهداف العلمية ضمن منظومة الاهداف الاستشراقية تتمثل في معرفة الشرق ،معرفة الغرب لذاته ،تكريس الشعور الغربي بالتفوق ،تعرف الغرب علي الخطر الذي يتهددة ،كما ان انكباب علماء الغرب والمستشرقين علي التراث الاسلامي ومخطوطاته كان الهدف الاساسي منه هو الاستفادة العلمية البحتة في كافة أوجه المعرفة الإنسانية ،الي جانب سعي الغرب الدائم الي تكريس الشعور الغربي بالفوقية والتميز وبالمقابل تعزيز الشعور الشرقي بالدونية ومحاولة اقناع الشرقيين بضآلة وعجز العقلية الشرقية , وإفراغ نتاجها الحضاري والثقافي في كل صورة ومجالاته من أي مضمون إبداعي
كما لا يمكن أن نغفل الدور الذي لعبة الاستشراق فيما يتعلق بالحوار بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية حيث يعتبر المستشرقون هم الجسور التي من عليها يقرب الغرب من الشرق ولقد كان للاستشراق العديد الايجابيات منها الجهود الكبيرة التي بذلها بعض المستشرقين لتحقيق ونشر كثير من الآثار الإسلامية المهمة ومعاناة قراءة مخطوطاتها مع الصبر الجميل والتحري الدقيق في إخراجها في وقت لم يكن بعض الباحثين من العالم الإسلامي لا يعرفوا عن هذه الآثار غير الإشارة الي أسمائها وأسماء مؤلفيها فحسب ترجمتهم الكثير من أمهات المصادر والمراجع الإسلامية في شتي فروع المعرفة الي اللغات الأوروبية الحديثة , مما أتاح للغربيين أنفسهم الإطلاع علي جانب غير قليل من التراث الإسلامي ،كذلك اهتمام المستشرقين البالغ باللغة العربية أثمر عددا من المعاجم اللغوية المهمة , وقدم بحوثا مقارنة مفيدة في المستويات اللغوية المختلفة
كذلك امتلك بعض المستشرقين الشجاعة الأدبية مما جعلهم يتوفرون علي نشر كتب ونصوص جدلية كلامية وفلسفية تنتقد دياناتهم ومذاهبهم بل وترجمتها الي بعض لغاتهم كذلك جهود المستشرقين في وضع العجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي.
ومن هنا كان للعلاقة بين الشرق والغرب طابع خاص طغت علية فكرة التنافسية ومحاولة سيطرة كل طرف علي الآخر، مع وجود تلك التكاملية التي فرضتها الظروف الجغرافية والاقتصادية لذلك الزوجين المترابطين ترابطا وثيقا ضعفت خلاله فكرة الانفصال عن الآخر ، وأخرجت تلك المعارك الثقافية انتاجا فكريا شابه أحيانا التعصب الإيدولوجى والسياسى وحينا آخر أعمالا توصف بالحيادية والنزاهة العلمية .