الشاعر شعبان يوسف: سيد درويش مازال حاضرًا بقوة في وجدان الشعب

كتبت: هايدي فلفل

يقول الشاعر الكبير شعبان يوسف،  مازال سيد درويش يرج عرش الموسيقى رغم أنّ كتبًا كثيرة صدرت عن فنان الشعب سيد درويش، والذي يستحق ذلك اللقب بجدارة، ولم يكن هو الذي أطلقه على نفسه، ولم تكن له جوقة تعمل في الدعاية له، ولكن عمره القصير الذي عاشه، استطاع بالفعل، وليس بالقول، أن يهز عرش الموسيقى، ويحدث انقلابات تحدث عنها حشد من الموسيقيين والمطربين والباحثين الكبار، ورغم أن ذكرى رحيله تجاوزت المائة عام من السنوات، إلا أنه مازال حاضرًا بقوة في وجدان الشعب بشكل منقطع النظير، يكفي أن تتردد بعض أغانيه بداية من “الحلوة دى قامت تعجن في الفجرية، ودنجى دنجى، وبلادي بلادي، لك حبي وفؤادي”، فنجد أن أرواحنا وأجسادنا وقلوبنا تهتز طربًا لا لبس فيه، ذلك الطرب الذي ما زال يحدث رغم مرور كل تلك السنوات، ورغم تطور الموسيقى بأشكال مختلفة، ورغم تطور كل آلات الموسيقى، ونبوغ أصوات وألحان قوية وعبقرية مثل محمد عبدالوهاب وزكريا أحمد، وأم كلثوم، ثم عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، وصولًا إلى محمد منير وعلي الحجار، إلّا أن اسم سيد درويش ما زال سيدًا بالمعنى الفني، وما زال شامخًا وسط كوكبة عظيمة من الفنانين تواترت فنونهم المتنوعة عبر قرن من الزمان.

وقبل أن نتحدث عن الكتاب، لا بد أن أشير إلى مؤلفه، الذي لا يكتب كتابًا، إلّا وتكون هناك قضية بحجم مغامرة، ولكنه يعمل بكل ما يملك من دأب، ودقة، ومجهود بحثي لا يعرفه إلا الذين يعرفون مكابدة البحث في غابة من المعلومات المغلوطة والمضللة، وأحيانًا تضيع الحقيقة التي لا تجد من يتبناها ويدافع عنها، أمام الجرائم التي تجد من يروج صحتها، ويسوق لها، وعلى سبيل المثال كتابه( يا صاجب المدد .. سيرة شاعر ومسيرة وطن ـ عن الشاعر زكي عمر) والذي أنشأه بشكل كامل من أجل الانتصار لحق هذا الشاعر في أغنية “مدد مدد، شدي حيلك يابلد” والتي حققت رواجًا عظيمًا عندما لحنها وغناها الفنان محمد نوح، كذلك كتبه الأخرى، والتي ينتصر دومًا فيها للمهمش والمستبعد والمجهول في حياة الكُتّاب والفنانين، ورغم أنه ينشئ كتابًا أو تحقيقًا، أو موضوعًا صحفيًا، إلّا أنه يظل طوال الكتاب يمدنا بالمعلومات التي نكاد نجهلها، أو كنا نعلمها، ولكن طواها النسيان.

واضاف يوسف : وعلى هذا الدرب، أنشأ كاتبنا ذلك الكتاب عن (مولانا سيد درويش)، كما أطلق عليه، وهنا يعطي قدرًا من الإيحاء بأن الشيخ سيد درويش هو الأحق بذلك اللقب، مع لقب “فنان الشعب”، ورغم أن الكاتب أخذنا في رحلة عميقة، ومُكثفة، تلخص حياة مولانا سيد درويش، إلّا أن مركز الكتاب يؤكد على موهبة تخص سيد درويش ـ غير الموسيقى ـ لم يركز عليها الباحثون من قبل، بالطبع تم ذكرها في كتابات وأبحاث سابقة، لكنها كانت مذكورة بشكل هامشي، وهي موهبة الشعر التي كانت روح سيد درويش تنطوي عليها، ولم يركز خيرى حسن حول هذه الموهبة، ويثبتها بكثير من الأدلة والقرائن، إلّا لكي ينتصر لقضية تم التضليل فيها على أعلى مستوى، وهي نسبة كتابة نشيد “بلادي بلادي” إليه، وليس لمعاصره الشيخ محمد يونس القاضي، الذي بذل مجهودات كثيرة لكي يثبت ـ كذبًا ـ أن نشيد (بلادي بلادي) من تأليفه هو، وليس من تأليف غيره.
ورغم أن تلك القضية التي قدم فيها خيري حسن مجهودًا، يكاد يعادل مجهود القضاة والمحامين للوصول إلى عدالة القضية، إلّا أن كاتبنا أراد أن يعطي بانوراما جديدة حول حياة سيد درويش، منذ أن كان يذهب إلى حسن الأزهري الذي كان يقيم حفلات موسيقى في منزله، وما أن اشتبكت موهبة الفنان الصغير، مع تلك الموسيقى، حتى لمسته شرارة الفن وجنونه، وضبطه والده وهو يغني في موقف كاريكاتوري سيجده بتفاصيله القارئ الكريم في متن الكتاب، فأمره بالامتناع عن الذهاب إلى تلك الحفلات الماجنة، ولكن الطفل الذي صار صبيًا، تحدى تلك الأوامر التي التزم بها قليلًا، ولكن الموهبة فرضت نفسها، وأصبحت تطارده، دون أن يقاومها، بل كان يوفر لتلك الموهبة كل ما تطلب من مدد، ومن ثم غادر الإسكندرية، وشد الرحال إلى القاهرة، ولكنه لم يجد ذلك النجاح، فعاد مرة أخرى إلى الإسكندرية، وهو لم ييأس، فيسافر إلى الشام، كذلك لم يحقق ذلك النجاح المنشود، ولكن بدأ اسمه يبرز، ويلمع، حتى سمع به الشيخ سلامة حجازي، والتقى به بطريقة شبه دراماتيكية، عندما جاء له أحد أصدقاء سلامة حجازي، وقال له: الشيخ سلامة حجازي يريد أن تذهب إليه، ولكن سيد درويش قال له: لماذا لا يأتي سلامة حجازي؟ وعندما بلغ ذلك سلامة حجازي، قرر أن يذهب إليه، لأنه كان يقدر موهبة ذلك الفنان العظيم الذي مازال في بداية الطريق، وبالرغم من أن اللقاء الفني الأول لم يأت بثماره، إلا أنه كان البداية التي وضعت سيد درويش على سلم المجد الفني، وفي تلك المساحة، يتقمص خيري حسن دور الحكاء، فيسرد علينا سلسلة من الحكايات التي جعلت اسم سيد درويش له حضور كبير في الحياة الفنية.

ويؤكد: أنه ومن خلال تلك الحكايات، والوثائق، واالشهادات، لا تغيب عن المؤلف، تلك القضية التي أنشأ من أجلها الكتاب كله، وهي قضية نسب نشيد “بلادي بلادي” إلى سيد درويش، وراح يتقصى كل المعلومات الخاطئة التي كان يشيعها محمد يونس القاضي، تلك المعلومات التي رددها كثير من الباحثين دون التحقق من صحتها. ولم يكتف خيري حسن بالبحث في الأرشيف الصحفي، والإذاعي، وما جاء في الكتب، ولكنه كان يستعين برجال القانون والمختصين، حتى وصل إلى معلومة خطيرة، وهي أن الوثيقة التي كان يونس القاضي يبرزها دائمًا، وتثبت ـ كما يزعم ـ أحقيته بملكية نشيد (بلادي بلادي) واستخرجها من المحكمة المختلطة، وجد خيري حسن أن تاريخ استخراج تلك الوثيقة، كان يوم جمعة، والمحاكم لم تكن تعمل في أيام الجمع، ومن ثم فهي وثيقة مزورة مائة في المائة، حسب ما جاء في الكتاب.
الكتاب جاء في سلسلة “فصوص” فنية، مثل أيقونات، كتبه المؤلف بروح العاشق والأديب والصحفي الباحث عن نقطة ضوء في كثافة من عتمة المعلومات، أو ضبابيتها، إنه كتاب يحمل المتعة، كما يحمل المنفعة أو الفائدة، وبالتأكيد فهو إثراء للمكتبة الفنية من زوايا عديدة، وسوف يكون مفيدًا في قضية طال الجدل فيها على مدى عقود سابقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *